كدت أقتلها بنت الحرام لولا أن الناس خلصوها من يدي , لكن " ربي كبير ذنوب ابنتي خرجوا فيها " لقد ضبطوها تبيع المخدرات فسجنت . ربي كبير.
من يومها أصبحنا صديقتين حميمتين , اعطتني نسخة من مفتاح شقتها أذهب متى اريد , أرعى ابنتها بين الفينة والأخرى , نتسكع سويا . كنا نعيش حياتنا بلا عقد أو خوف ولا ممنوع ولا حشومة . لكن عندما اعود الى بيتنا اكون تلك الفتاة الطيبة الصامتة . ملابسي محتشمة , هيئتي تبعث على الاحترام و يحمر وجهي خجلا اذا ما كلمني غريب .
في بيتها عرفت نجيب . كان يعمل في المكتب الشريف للفوسفاط . كان جزائريا . لم كين وسيما أو ثريا , كان شخصا عاديا قد تصادفه في طريقك فلا تلتفت اليه . لكنني وجدت فيه شيئا ما جعلني أنجدب اليه . ثم أعود واقول كيف كانت البداية ؟ بداية ماذا ؟ بداية الحكاية . لا أدري , كنا نتحدث او بالأحرى يتحدث يتكلم بعفوية . كنت استمع بأذني , بعيني بكل حواسي . أردت أن انصرف استبقاني قليلا , لم أجد ما أقوله . حاولت أن أنصرف استبقاني . تمنيت لو يتوقف العالم عن دورته الطبيعية , لو يحدث شيء قوي يقلب موازين الطبيعة فلا يتحرك الوقت أبدا وابقى معه . يومها خرجت من بيت إلهام وانا لا أمشي , أطير هي حالة ثالثة بين المشي والطيران . اصبح كل شيء مزينا بألوان الفرحة , كثياب الأطفال يوم العيد . وفي أنفي رائحته المميزة : رائحة الخمر والسجائر . رائحة غريبة وجميلة ورائحة الرجولة . قد يضحك مني أحد اذا ما سمع هذا الكلام , لكن لا يهم . يا إلهي ماذا يحدث داخل هذا الجسد ؟هذ ه الرأس ؟ هل هو الحب ؟ هل يمكن أن يحدث هذا من أول لقاء ؟ من أول حديث ؟ صورته آخر شيء أغلق عليه عيني واول شيء أفتح عيني عليه . بل أكثر من هذا أجده يتسلل الى احلامي يتسكع داخلها . ياإلهي مالي والحب والسهاد والأرق ؟ لقد كنت مرتاحة آكل واشرب وانام واتغوط كباقي البشر .
عندما حاولت اقناع أبي ثانية بسفري الى الرباط للدراسة قال جملة واحدة :
- ها السخط , ها الرضا .
صمتت واخترت " الرضا " . التحقت بكلية الحقوق . قالت لي الهام :
- انت انهزامية تستسلمين بسرعة. كان الأجدر بك أن تتشبتي برأيك و تدخلي الجامعة التي اخترتها أنت , لأنه مستقبلك أنت و ليس مستقبله هو .
- لنفترض أنني تشبتث برأيي , من أين سأدفع مصاريف الدراسة ؟
- عندما يجدك والدك متشبثة برأيك سيستسلم و يدفع لك ما تريدين .
- اذن لا تعرفين أبي , لا يستطيع أحد أن يلوي دراعه.
- لا أعرف بأي حق يتحكم هؤلاء الآباء في مصير أبنائهم ؟ ماذا ستفعلين بليسانس الحقوق ؟ لا يوجد أكثر من المحامين في هذا البلد .
- ماذا سأفعل بشهادة الحقوق ؟ سأعلقها في اطار مذهب واضع يدي على خدي وانتظر عريسا يملأ بطني أطفالا أمارس عليهم عقدي والقنهم أفكاري البالية , هذا كل شيء .
- انك تمزحين .
- لا أمزح قد يحدث هذا فعلا , كل شيء ممكن . أريد أن أدرس الصحافة , سأفعل ذلك بعد الحصول على ليسانس الحقوق .
صفرت بفمها :
- تدرسين بعد الليسانس ؟ و متى تتزوجين و تنجبين ؟
- هل تصدقين اذا قلت لك أن أحلامي لا يدخل في ضمنها الزواج ؟ أريد طفلة نعم , كان هذا حلمي دائما لكن لا أريد زوجا .
- و نجيب ؟
صمتت قليلا ثم قلت :
- نجيب ؟ لا أدري .
- كيف لا تدرين؟ لقد كنت سعيدة به و كدت تجنين لأجله.
كنت أنظر في اللاشيء و في عيني دموع متحجرة و حيرة . لا أعي ما حولي , شعور بالضياع والألم , كيف أعبر عما أعانيه ؟
و عاودت السؤال:
- ماذا يحدث بينكما ؟ هل طلب منك ..
- أجل طلب مني كذا مرة أن أرافقه الى بيته وانت تعرفين البقية.
أشعلت سيجارتها وقالت :
- وماذا في ذلك ؟ هذه أمور عادية و قد سبق لك و ذهبت مع شخص ما .
وبعصبية صرخت فيها :
- أنت لا تفهمين , كيف أشرح لك ؟
- اهدئي , قولي ما يجول بخاطرك لا تحاولي اختيار الكلمات و تنميقها تكلمي بعفوية .
- لا أكاد أتصور انه سيلمسني هواو غيره , أحس بالتقزز , سأقول لك شيئا انني ارتعش بل أنتفض اذا ما اضطرتني الظروف أن أكون أنا ورجل ما لوحدنا حتى لو كنافي صعد .
- أفهمك . لماذا لا تزورين طبيبا نفسيا ؟
لست بحاجة لطبيب , أعرف عقدتي " قدور القدر" .
- تعرفين عقدتك لكن لا تعرفين العلاج.
- انسي هذا الموضوع . سأختلق أي سبب لقطع علاقتي بنجيب .
صرخت في وجهي:
- الى متى تؤجلين كل المواضيع ؟ تؤجلين تحقيق حلم الصحافة تؤجلين الفرحة والحياة . أنا أقول لك بكل صراحة ما ذا تنتظرين ؟ قد تغضبين مني لكن لا أعرف مراوغة الذين أحبهم :
- تنتظرين وفاة والدك و بعدها لن يكون هناك من يحاسبك أو يتحكم فيك . كل واجد من أهلك في بيته و همومه و مشاكله. ساعتها تسافرين , تدرسين , تعالجين نفسك . واذا لم يمت والدك هل تظلين في انتظار الذي يأتي أولا يأتي ؟ هل تنتظرين " بابا نويل " يأتيك بالحل مغلفا في ورق ملون ؟ أم تنتظرين حورية من حوريات الأساطير القديمة تضرب بعصاها السحرية فتحيل سواد أيامك الى لون وردي ؟
كان وجهها محتقنا . جلست على الكرسي وهي تلهث من شدة الانفعال .
أحسست أنني عارية أمامها . كيف استطاعت أن تقرأ أفكاري ؟
جاء أبي من سفره ذات يوم و كنت وحدي في البيت . بدا حزينا قال لي :
- اجلسي يا ابنتي أريد أن أتكلم معك .
لم تعجبني كلمة ابنتي , أحسستها كنقطة زيت تطفو فوق السطح . ثم اني لم أتعود أن أتكلم معه في أي شيء . هو يصدر الأوامر فقط وانا أنفذ .
جلست فقال :
- اصدقيني القول , ماذا تعرفين عن زوجتي ؟
شممت من سؤاله رائحة مؤامرة , شخص ما وشى بها عند أبي .
قلت بغباء :
- أعرف أنها زوجتك .
بدا على وشك الانفجار:
- انك تفهمين ما أعني فكفي عن استفزازي .
- ماذا تريدني أن أقول لك بالضبط ؟
- أجيبيني بنعم أولا : هل زوجتي سلوكها سيء ؟
أحسست بقلبي يدق بعنف . هل أقول له نعم ؟ ما أسهل هذه الكلمة . أقول نعم و سيتعاركان و يتبادلان الاتهامات و بعدها هدوء وصمت " الطلاق " . ستحمل ملابسها و تعود لأهلها . لكن بعد ذلك يعود أبي للبحث عن امرأة أخرى ولا أدري كيف ستكون و تتكرر المهزلة . فلأصمت هذا أفضل .
سألته بغباء ثانية :
- هلا فسرت لي سلوك سيء ؟
ضرب المائدة الرخامية بقبضة يده و قال بعد أن تجرع كوب ماء دفعة واحدة :
- هل زوجتي تخونني ؟
- وهل تخونها أنت ؟
- أناا والدك ولا يجوز أن تطرحي علي أسئلة بهذا الشكل.
- لا أكاد أفهم انكم تجيزون أشياء و تحرمون أخرى حسب أهوائكم .
- بحق الله أجيبيني على سؤالي وارحميني من هذا العذاب.
- حتى والدتي تعذبت في قبرها عندما خنتها و تزوجت بعد شهرين فقط من وفاتها , لم تحترم حتى ذكراها .
- لقد فعلت ذلك لأجلك , لكي تكون لك ونسا ورفيقا. لم أكن أريدك أن تتعذبي : الدراسة , عمل البيت , غسيل الملابس , الطبخ ..
- كنت على استعداد أن أتحمل الصديد الا زواجك . اتيانك بامرأة نزعت كل صور أمي من على الجدران أليس أشد عذابا ؟ وزجرها لي عندما كانت تجدني أبكي معانقة صور أمي أليس أشد عذابا و قهرا ؟
- ألم تنسي بعد ؟ لقد مر الكثير على هذا.
- حتى الموت لن ينسيني ما عانيت .
- لم أكن أظن أن سؤالي سيجلب علي كل هذه المتاعب . أجلي المناقشة لوقت لاحق واجيبيني : هل سمعت أو رأيت شيئا يثبت خيانتها لي ؟
- سأجيبك , لو خنتها أثناء أسفارك الكثيرة فهي كذلك خانتك هنا . واذا أردت أن تنزل بها عقابا فامنحها فرصة لكي تعاقبك هي الأخرى .
رأيت وجهه أصفر كما لم أره من قبل. حتى عندما ماتت أمي لم يصفر وجهه بهذا الشكل . أذكر يومها قال بكل هدوء : " انا لله وانا اليه راجعون " و رأيته بعد ذلك يفكر, كنت أظنه يفكر في أمي لكن أكاد أجزم أنه كان يفكر في عروسه الجديدة .
شدني أبي من يدي بعنف:
- خيانة الرجل ليست كخيانة المرأة .
قاطعته :
- الخيانة ليس لها لون و جنس . الخيانة تبقى خيانة تصرف حقير و بشع . ما رأيك بطعم الخيانة ؟ أليس مرا ؟ أمي عانت منه كثيرا حية وميتة . حتى أمي كان الناس يقولون لها زوجك رأيناه مع فلانة , زوجك رأيناه مع علانة وكانت تبكي في صمت وعندما كنت أقول لها اغضبي وثوري لكرامتك كانت تقول لي من أين لي بالعيش الحلال اذا تركته ؟ و عندما تحضر كانت تغسل قدميك وفي عينيها ذل وانكسار . كنت أكره ضعفها و خضوعها . خنتها كثيرا و لم تخنك ولا مرة .
- عيب أمك أنها سلبية اذا قلت لها هذا الشيء أبيض فهو ابيض حتى لو كان أسود. اذا قلت لها موتي في هذا المكان تمت لحينها . وانا كنت في حاجة لامرأة تناقشني , تعارضني كنت أحس أنني أعيش وحدي في البيت. أفكر و حدي أقرر وحدي أمك تكتفي دائما بتحريك رأسها بالموافقة حتى لو لم
تفهم ما أقول . كنت محتاجا لامرأة تحسسني بوجودها , تلبس أحسن اللباس لي و تتزين لأجلي .
- وها أنت تزوجت امرأة تتزين وتلبس أحسن اللباس..
بثرت جملتي . كنت اود أن أكمل : تتزين ليس لك وحدك ربما ليس لك أبدا بل للرجال الآخرين .
- لماذا صمتت ؟ أكملي .
- لافائدة من النقاش .
- ومع ذلك لم تشف غليلي , جعلت الأمور أكثر تعقيدا بالنسبة لي .
- لماذا لا تطرح عليها السؤال مباشرة ؟ سيكون ذلك أفضل .
دخلت غرفتي . أقفلت علي الباب , نظرت في المرآة: كيف واتتني هذه الجرأة ؟ كيف قلت لأبي كل هذا ؟ نظرت جيدا في المرآة كنت أرتعش وعرق بارد يلف جسمي.
حضرت زوجة أبي , لم يخبرها بأي شيء , لم يتغير أي شيء .
ذات يوم بعدما تناول أبي غذاءه ناداني . لم يكن ينظر الي . كان يبدو شاردا . بسمل و حوقل وبعدها قال :
- كم عمرك ؟
(انه يمهد لشيء ما . أكره المقدمات , لماذا لا يدخل في الموضوع مباشرة)؟
- عشرون سنة.
- عشرون سنة. عندما كانت والدتك في مثل عمرك كان لي منها ثلاثة أواربعة أطفال .
(مانهاية هذا الموشح ) ؟
- لقد تزوجت جميع شقيقاتك و لم يبق سواك . حتى شقيقتك الصغرى تزوجت . أنا كبرت , تجاوزت الستين و لن أعيش لك العمر كله , يجب أن أطمئن عليك .
(أشم رائحة عريس في الموضوع )!!
- توصلت برسالة من باريس من " قدور" هل تعرفينه ؟ أقصد هل تذكرينه؟
مجرد ذكر اسمه يبعث على القيء . لكن ما علاقة هذه الأشياء ببعضها ؟
- اني اسألك , هل تذكرينه ؟
- أتذكره . ( قلتها وكانني ابلع ضفدعا ).
كيف لا أذكره ؟ رائحته العفنة ملتصقة بجلدي حتى العظم , صورته موشومة بين عيني . " قدور القذر" هل هناك من ينسى جلاده ؟ )
أكمل أبي :
- انه ابن أصول ولد دارهم , رجل من ظهر رجل , تربيتي أنا . أنا زرعت فيه الرجولة . أرسل لي رسالة لا داعي أن تقرئيها . انه ينوي تطليق زوجته النصرانية و سيأخذ أولاده منها بالقوة بالقانون بحد السيف لا يهم . سيأتي بهم الى هنا . لديه بنتان وولد واحد . يريدهم أن يتربوا على الأخلاق والقيم . لا يريدهم أن يتبعوا دين والدتهم النصرانية. أنت لست غبية انك تعرفين كيف يعيش أولئك القوم , منحلين عليهم اللعنة . هواخطأ حين تزوجها لكن لا يهم سيصلح خطأه ويأتي الى هنا و يتزوجك ...
لم أعد أسمع شيئا. طبول عنيفة تدق في رأسي. أسرعت الى الحمام أحسست بأحشائي تكاد تخرج من فمي .( قدور يا ابن الكلب , أية لعبة قذرة تلعبها ؟ يا ابن الزانية ألا يكفي ما فعلته أثناء الطفولة ؟ هل أعجبتك لعبة الجلاد والضحية ؟ هل تنتقم من أحد ما أو من شيء ما في شخصي الضعيف ؟ )؟
- لا الا قدور.
- ماذا به قدور؟ لديه عمارة من خمس طوابق هنا بالمغرب و رصيد ضخم في البنك و سيارة .. و..و..
- أريد اتمام دراستي .