ضحكت الهام:
- لا انها بنت مدارس واتت فقط للفرجة.
صرخت بشرى ووقفت وهي لا تكاد تصلب طولها:
- أتت للفرجة ؟ نحن قردة ؟ قفوا جميعا واقفزوا وقوموا بحركات بهلوانية حتى تتفرج علينا الآنسة فنحن قردة , بهلوانات والآنسة البورجوازية أتت للفرجة. اسمعي نحن نقحب علانية " على عينك يا بن عدي " , لكن أنت و مثيلاتك تتخفين وراء الأقنعة و تفعلن فضائح يندى لها جبين الشيطان.
كان كل من في البار ينظر الينا . عرق بارد يلف جسمي .
جاء شخص طويل و ضخم الجثة أمسك بشرى من ذراعها:
- هل تنوين المبيت الليلة في " الكوميسارية " ؟ اجلسي بهدوء أوانصرفي.
جلست . انصرف الرجل الضخم , قلت لبشرى:
- سأنصرف.
- لن تنصرفي , ستجلسين و تسمعين . ألم تأت للفرجة والتسلية ؟ سأسليك بحكاية جميلة . يبدوانك سادية تتسلين بهموم الآخرين , هل أنت صحافية ؟
قلت بتأفف وانا ألعن جذور أجدادي واجداد إلهام واجداد هذه ال" بشرى " المخمورة :
- أنا لست صحافية , كل ما في الأمر أنني جننت هذه الليلة واتيت الى هنا.
- لا أنت صحفية , أين كاميرا التصوير؟
- يا الهي أي علكة هذه ؟
- لايهم الكاميرا , أنا كذلك أردت أن أكون صحفية, أختي كانت تريد أن تصبح طبيبة بيطرية.
صمتت قليلا و بدت شاردة :
- كان عمري أربع سنوات عندما أخذنا أبي أنا وامي وأختي الى فرنسا . كان يعمل هناك , كبرت كأي فرنسية لكن كنت أشعر ببعض الغربة. في بعض الأحيان عندما ينظرون الى لوني الأسمر و يسألوني من أي بلد انا أتذكر فورا بأنني غريبة مهاجرة . في فرنسا يعاملوننا كالغرباء و عندما نعود الى المغرب يعاملوننا على أساس اننا غرباء . لا نشعر بأي انتماء , الغربة تلاحقنا . كنا نأتي مرة كل سنتين الى المغرب , لا نمكث هنا في البيضاء فنحن من الجنوب من أرفود .
هل ذهبت مرة الى أرفود ؟
لم تنتظر جوابي واكملت :
- أقسم أنك لم تذهبي أبدا , حتى ربما لا تعرفين موقعها على الخريطة . المهم ذلك العام ذهبنا الى أرفود كالعادة . كنت أكره تلك المدينة . كانت كالسجن : حرارة لا تطاق , لا يوجد أي مكان للتسلية , رمال , رمال . شيء واحد كان يصبرني هو انني كنت أعرف أنني سأعود الى فرنسا: الحرية , الأوكسيجين . في أحد الأيام قا ل أبي لنا أنا اختي :
- ستتزوجان ابني عمكما و تسكنان هنا في أرفود
ضحكنا. ظنناها نكتة. لكنها أبدا لم تكن نكتة. كانت كابوسا مخيفا . أتعرفين ماذا كانت حجته ؟ قال انه يخاف أن نبلغ سن الرشد و نتمرد عليه و نتزوج أجانب . والدتي لم تستطع الدفاع عنا . لم أستطع أن أتخيل نفسي واحدة مثل باقي النساء : آكل , أتغوط وأفتح فخذي لأنجب دزينة من الأطفال . وارفود هذه أكرهها . مزق جوازي سفرنا , ليبقى حل واحد الهرب . لم أفكر أبدا في الانتحار . هربنا الى البيضاء والنهاية ها هي أنا هنا , أختي في أكادير مع الخليج والألمان وابي يبحث عنا وانت تتفرجين وانا أسكر وادخن الحشيش وانتظر زبونا جيبه منتفخ أذهب معه واسرقه صباحا.
و ضحكت ضحكت بلا معنى و قالت وهي تنظر لدخان سيجارتها المتطاير :
- أبي كان يخاف أن نفقد عذريتنا . نكتة.
وضحكت ضحكة مدوية جعلت الجميع يلتفت نحونا :
- فقدتها و عمري ثلاثة عشرة سنة , أخذها الغراب و طار وأبي يظن نفسه " ذكي " , " معلم " , " فايق و عايق ".
جاءت إلهام و قالت لي :
- هيا بنا سيوصلنا زبون بسيارته. هذا أفضل حتى لا يلقى علينا القبض من طرف الشرطة.
نظرت الي بشرى و قالت بأسى :
- هل رأيت ؟ كلنا أولاد ناس لم نختر مصيرنا , كنت مجبرة على ذلك .
- لكن خديجة لم تكن مجبرة على أي شيء .
نظرت الي باستغراب :
- من خديجة هذه ؟
سحبتني الهام من يدي :
- يبدو ان دخان السجائر أثر عليك هيا بنا .
أحسست أن كيسا من الرمل موضوعا فوق قلبي لا يريد أن يتزحزح , تمنيت لو ضممتها الي , أمد لها يدي ببعض الماء لأمنح وجهها بعض البلل .
في البيت سألتني إلهام :
- هه ؟ أما زالت التجربة مثيرة و مخيفة ؟
صمتت وصورة بشرى الطفلة السمراء لا تفارقني .
أتى أبي يوما مكفهرا . ناداني وقال دون مقدمات هذه المرة :
- " قدور " مات , انتحر .
- كيف حدث ذلك ؟
- لا أدري . الأخبار التي وصلتني تقول أنهم وجدوه مشنوقا في " جراج " الفيلا التي يسكنها هنا ك في فرنسا.
شعور غريب انتابني : لم أحزن و لم أفرح . لماذا انتحر؟ كان أبي يذرع الغرفة جيئة و ذهابا و يداه خلف ظهره:
- لابد أن في الأمر سرا . لماذا انتحر ؟ لا بد أنها " النصرانية " علمت أنه سيتركها و يأخذ أولاده ف... كل الشرور تأتي من المرأة , الشر امرأة و...
( الخير رجل طبعا . نحن النساء شريرات وانتم الرجال طيبون واخيار ).
كان والدي يحدث نفسه :
- لماذا انتحر ؟ لو صبر قليلا و تزوجك وبعد ذلك فليمت . كل الأموال التي هنا أو في فرنسا ستأخذها " النصرانية " : العمارة , الرصيد .. الهمزا طارت . سأرفع عليها قضية واطالب بحقي في الارث .
( يطالب بحقه في الارث ؟ لكن ما صلة القرابة بينه وبين " قدور " ؟ انه ابن عم خال جد مراة أبوه أولاأدري ماذا . ريحة الشحمة في الشاقور) .
نظر الي :
- ما رأيك أن أرفع قضية ؟
كنت أعرف أنه لن يسمع كلامي قلت له :
- لما لا ؟ ارفع قضية فمن يدري ؟ فنحن في زمن و بلد العجائب
كان لا بد أن اعرف لماذا انتحر " قدور" ؟ ما هو السبب الخطير الذي جعله ينتحر؟ انه جبان نتن . لاينتحر الا الجبناء . علمت بعد ذلك بخبر قدور زوجته " النصرانية " كان اسمها جوزيان , أتت للمغرب لتصفية كل الأمور المادية في المغرب والعودة الى فرنسا. لم أكن أملك رقم هاتفها لذلك ذهبت اليها مباشرة . قرعت الجرس فتحت لي الباب . تغيرت كثيرا , سبق لي أن رأيتها مرتين . كانت أردافها ممتلئة . أما التي أرى أمامي فهي هيكل عظمي متحرك .
يبدوانها لم تتعرف علي قلت لها :
- أنا قريبة " قدور " .
تغيرت ملامحها , بدت متضايقة:
- ماذا تريدين ؟
أحسست بالحرج . ماذا أقول لها؟
- علمت أنك هنا واردت فقط أن ..
صمتت قليلا , لم أعرف ماذا أقول في الحقيقة . بدت متضايقة ثم قالت :
- تفضلي بالدخول .
دخلت . البيت أنيق جدا , مؤثت على الطريقة المغربية. كيف أبدأ حديثي معها ؟ علي اللعنة لماذا اتيت ؟ فلينتحر أو فليذهب الى الجحيم ما شأني به ؟
قطعت الصمت بجملتها ؟
- تودين معرفة لماذا انتحر " قدور " أليس كذلك ؟
- نعم اذا كان ذلك ممكنا.
- في نظرك لماذا انتحر؟
شعرت بالحرج:
- لا أدري . لو كانت لدي أدنى فكرة لما أتيت لأسألك.
أشعلت سيجارتها , تنهدت ثم نادت بأعلى صوتها:
- زهرة , تعالي حبيبتي .
واتت زهرة طفلة شقراء في حوالي الخامسة من عمرها . ربما اكبر قليلا , جميلة جدا لا يملك المرء الا أن يحبها. أجلستها والدتها على ركبتيها و قالت لها :
- احك للآنسة ماذا كان يفعل معك بابا ؟
بكل عفوية وبراءة اخذت تحكي :
- عندما كانت تذهب ماما للعمل يأخذني بابا , ينزع ملابسي كلها ويقبل جسمي وبعدها ينزع بنطلونه ويخرج شيئه ويضعه في مؤخرتي . كنت احس بالألم لكنه كان يقول لي لواخبرت أي أحد سأرميك في الغابة و تأكل الذئاب جسمك.
شعرت بالأرض تميد بي , عرق بارد يلف جسمي.
- اذهبي الان يا زهرة .سأكمل لك الحكاية : في يوما ما وجدت حرارتها مرتفعة اخذتها الى الطبيب , عندما فحصها وجد تعفنا في جهازها التناسلي وبكارتها مفتضة , شككت في كل الناس , في مدرسها في حارس الفيلا في الجيران الا في قدور قرر الطبيب ابلاغ الشرطة استمهلته حتى أعرف منها بنفسي وكانت الصاعقة قالت : أبي
هل يعقل هذا ؟ لا أستطيع أن اعبر بالكلمات , جربت كالمجنونة الى البيت لأكتشف أن زهرة لم تكن وحدها الضحية : فاطمة ويوسف أولادي الآخرين.هل تصدقين هذا؟ هذه أشياء كنت أقول تحدث للآخرين فقط. نسمع عنها في الأخبار و نقرأها على صفحات الجرائد. لكن ان تقع عندنا؟ لا. عندما علم أن خبر جريمته انكشف ، انتحركنت اود لواقتله بيدي , لديه أموال كثيرة كان من الممكن أن يذهب الى أية ساقطة ويفرغ مكبوتاته الحيوانية, لكن أن يفعل هذا بأولاده أية وحشية هذه ؟
صمتت قليلا لتلتقط أنفاسها واشعلت سيجارة أخرى و قالت :
أولادي الآن يعالجون في مصحة نفسية , سأكون جمعية تعنى بضحايا الاعتداء الجنسي , يجب ان نحمي أطفالنا من أمثال هؤلاء .
لم أعرف ماذا أقول لها ؟ أحسست برغبة عنيفة في البكاء عّل دموعي تخفف عني . وددت لواصرخ بأعلي صوتي فارتدت الصرخة في جوفي . ماتت الصرخة قبل أن تولد . أجهشت بالبكاء , نظرت الي جوزيان نظرات غريبة قلت لها :
- أجل أنا كذلك عانيت مثل زهرة وفاطمة ويوسف . قدور حطمني أفسد حياتي . لم يكن وحده البقال والرجل الأسود .
- ابك , هذا جيد لا تتركي هذه الأشياء تعكر عليك حياتك . عندما نبكي و نتكلم نرتاح . لكن لماذا لم تخبري أهلك والشرطة ؟
- لأننا نخاف الفضيحة . الناس لن ترحمني ستصبح سيرتي علكة تلوكها الأفواه الكريهة . ضربوني وقالوا : أصمتي . فصمتت . أنتم هناك لا تخافون شيئا . هنا نرضع الخوف والقمع من ثدي أمهاتنا.
- فهمت . لكن ما رأيك أن تتغلبي على خوفك و تأتي معي الى فرنسا ؟
- ماذا أفعل هناك ؟
- ساعديني على انشاء الجمعية . اجعلي من تجربتك درسا للآخرين , ساعديهم على تجاوز أزماتهم و عندما تنجح التجربة هناك نفتح فرعا هنا, تكونين المسؤولة عنه .
- ستنجحين هناك في بلدك , لكن هنا أشك . أؤكد لك ستجدين هنا في أغلب البيوت حكاية مثل هذه وافظع . أشياء لا تتصورها العقول , لكن لا أحد يتكلم . هذه مواضيع مسكوت عنها.
- الى متى ستظل أمور مثل هذه تحت الغطاء؟
- لأننا اذا عريناها ستطفو روائح كريهة على السطح . روائح فضائح تزكم الأنوف. حكايات اعتداءات داخل الادارات , في المستشفيات , في البيوت , في الشوارع , حتى في الحافلات . يقول المثل المغربي : نبش تجبد حنش . والحنش أفعى كلما قطعت رأسها نبت لها ألف رأس و رأس . عودي الى بلدك ، وافعلي ما بدا لك , لكن اتركينا هنا نأكل و نتغوط وننام كالدواب ونغرز رؤوسنا في الرمل كالنعام.
- أنتم جبناء . قالتها بعصبية.
- قولي ما بدا لك , أجل نحن جبناء .
- سأكرر ثانية : تعالي معي الى فرنسا.
- أنا لم أستطع السفر الى الرباط لدراسة الصحافة فكيف سيتركوني أسافر الى آخر الدنيا ؟
- فرنسا ليست آخر الدنيا.
- كل مكان خارج البيضاء بالنسبة لهم آخر الدنيا.
قطبت ما بين حاجبيها ثم قالت :
- هم؟ من؟
- هم؟ أهلي .. أبي .
- بنازير بوتو عندما كانت في مثل عمرك قلبت بلدا باكمله وأنت مازلت تقولين أبي .
- بنازي بوتو لم يكن لها أب مثل أبي .
- كل هذه الأعذار واهية. اذا كانت لديك ارادة قوية و عزيمة وكنت تؤمنين بقضيتك , ستقفين في وجه الشيطان.