لم يدر بخلدي أبدا في يوم من الأيام أن أنام في سرير واحد مع هذه المرأة المكتنزة التي توسطت عقد الثلاثين؛ فهي لا تتوفر فيها أغلب مقاييس الجمال التي اعتمدتها في اختيار البنات العابرات طبعا في حياتي منذ طلقتُ زوجتي الثانية. أحرص حرصا تاما على ألا تتجاوز رفيقتي الرابعة والعشرين، وأن تكون ذات قامة نحيفة رشيقة مثل نخلة بهيأة عارضة أزياء. لا أخرج عن هذه القاعدة إلا للضرورة القصوى، وإن خرجتُ فيكون لمرة واحدة، ثم أصطنع أعذار التخلص الفوري، وهو ما يكون على الدوام، شطبت على كلمة عشق من قاموسي.
كان الجو ممطرا عندما لبيتُ دعوة لحضور معرض تشكيلي نظمته إحدى السفارات الأجنبية لفنان مرموق. ومثل هذه المناسبات يكون فرصة لي كما لقسم هام ممن يحضرون للتعارف؛ كل يأتي لغاية في نفسه: الفنان ليبيع اللوحات، وبنات ليصطادوا نخبة ممن اجتمع لهم الذوق والمال، وأولاد ليتعرفوا على بنات، وخلال ذلك يكون حديث عن الفن والفنانين والنجومية المحلية والعالمية، على كؤوس الشاي والقهوة والحلويات والمشروبات الغازية، لكن الروحية أيضا، وهي التي ساقتني لهذا المكان في الأساس، حيث كان معروفا بحكم سفارة انتماء الفنان أن الموائد ستكون مملوءة عن آخرها بالمشروبات الفاخرة التي يعدّ شربها بالنسبة لأمثالي ضربا من المعجزات، وإن تمَّ فيكون بأقساط صغيرة جدا في فضاءات تركت في أحدها ذات ليلة نصف حوالتي، فاضطررت لنفض البنات من حوالي كما ينفض المرء الذبابَ والرجوع إلى المنزل بجيب كسيح لم يصل إلى موعد استلام الحوالة الشهرية إلا بعد أن أذاقني صنوفا من التقتيرات...
في بهو المعرض التقيت أصدقاء كثيرين، وكان مما يلفت النظر حقا هذه المرأة المكتنزة التي تتمسك بالرجال تمسكا، فتشد هذا من يده وتشبك أصابعها في يد الآخر، وتعانق الثالث، ولا تتورع في دس رموز الجنس واستعاراته ومجازاته في الكلام والنكت التي كانت تحكي واحدة منها تلو الأخرى، لينقلب كل شيء في الحديث إلى تلميح للولوج أو الانتهاء من المضاجعة أو التهيؤ للوطأ، وتعقب ذلك كله بقهقهات لا يعرفها قاموس ذوقي في النساء. كأن بها جوع أبدي للجنس والرجال، وما توقعتُ أنها متزوجة إلى أن سمعت أكثر من واحد يسألها عن اسم أعرفه جيدا تبدى أنه زوجها؛ فتزاوجُ في الكلام عنه بين الرهبة والاحترام، بل والافتخار به، لكن كذلك بالامتعاض منه ونقده والسخرية منه. خمنتُ أنها إما مطلقة أو على الأبواب، ولكني لا أعرف لماذا حسمت الأمر في ذهني، فاعتبرتها مطلقة.
ثم جاء دوري، وربما كان من تدابير الأقدار الخفية أنني كنت المرشح الوحيد لخوض المغامرة مع تلك السيدة الجائعة؛ فبين ذلك الجمع من الأصدقاء كنتُ المطلق الوحيد، وما كانت تبحث هي في الواقع إلا عن رجل مثلي، هذا ما سأفهمه في ما بعد. أما الآخرون فكانوا كلهم متزوجين، وللأزواج أيضا طرق في سرقة اللذة بطرق شتى من النساء ولو في مناسبات عابرة ومع نساء عابرات كالمناسبة التي نحن فيها، هذا ما يفسر عدم اعتراض أي واحد من الأصدقاء عن تلبية طلب المرأة كلما دعته لعناق أو لتشبيك أصابع اليدين.
افتعلت المرأة المكتنزة سؤالي، فاستفسرني عن أزقة وممرات وكتب وصحف ومواضيع شتى فهمت أنها لم تكن سوى طرق ملتوية للوصول إلى بيت القصيد، وهو تبيّنُ سُبُل مغامرة جنسية محتملة معي طبعا. عرفتُ ذلك من نبرة حديثها معي التي تغيرت إلى صوت شبه منكسر، يتخلله غنجٌ ولغة عيون بمجرد ما حصلت على جواب عن سؤال دسَّته في الحديث دسا، وبدون أن يقتضيه سياق الكلام الأصلي: هل تسكن وحدك أم لا؟ بمجرد ما قلتُ: نعم: انفرجت أساريرها.
والحق أن الشيطنة كانت بيننا قسمة مشتركة: فأنا أيضا يمكن أن أدرج نفسي ضمن قبيلة شياطين الرجال بحكم التجربة التي تراكمت لي في معرفة النساء والتي جعلتني شبه كاهن أو عراف، إذ أتعرف على المرأة الجائعة جنسيا والمتخمة بمجرد النظر إلى عينيها وتبادل بضع كلمات معها. المتخمات جنسيا تظهر علامة الإشباع في عيونهن، حيث تحيط بهن حمرة مجللة بسواد يصعب وصفها كتابة، يستوي في ذلك بنات الهوى والمتزوجات على السواء. وقد ساقنتي إلى هذه المعرفة أيام كنت متزوجا بزوجتي الأولى والثانية، على التوالي: فقبل أن تهب رياح الفرقة وتفقد أطباق الجنس لذتها ونكهتها كنا نزرع في السرير ورودا وزهورا ما خطها كتاب غير مصنف الكاماسورا الرهيب في قراءة أدق أحاسيس الجسد ولغاته ونبضاته. وكان لقاء جسدينا معزوفة صوفية توفي النسك والزهد كل ما يستحقانه من حقوق وواجبات، ولذلك كانت تنفذ زوجتي إلى سر أسراري إلى أن أتدفق مثل النهر أو الشلال العظيم، وكنتُ أنفذ إلى سر أسرارها إلى أن أكسو وجنتيها بزهرتين قانيتي الحمرة مثل الدم، وكانت المرآة على الدوام شاهدا على ما أقول.
كما أتعرف على القصد الظاهر والباطن للمرأة من مجرد مسايرتها لبضع دقائق في الحديث؛ فالمرأة الجائعة تستحلب اللذة سرا من الكلام مع الرجل ولو كان قبولها مضاجعته إياها من سابع المستحيلات، فتراها تكثر اللف والدوران وتعيد السؤال في هذا الموضوع أو ذاك، وتستزيد الكلام من الرجل ولو كان القول قد انتهى. وأسطع دليل لي على ذلك الأوقات التي تصرفها بعض النساء في المشاكسة والمماكسة مع الباعة؛ إذ تسأل عن الثمن، ثم تغادر الدكان إلى آخر، وتعود إلى الأول وتطلب منه تخفيضا في ثمن البضاعة ربما تكون على علم تام بأن البائع لن يقبله، ومع ذلك لا تتورع في طلب ذاك التخفيض، وربما انقلب حديث البيع والشراء إلى دردشة حول غلاء المعيشة ومتاعب تربية الأبناء وقلة حياء شباب اليوم المعمم أو حتى أمور الآخرة وعذاب القبر... والغاية من وراء ذلك كله تكون، لا شعوريا في أغلب الأحيان، هي إطالة الحديث مع هذا الرجل الذي يشكل بديلا لزوجها الذي أطفأ تعاقب الأيام والجلوس تحت سقف واحد والنوم في فراش واحد زهرة الحب والهيام التي ساقت عشيقي أمس إلى مكتب تحرير عقود الزواج، فتحولت زهرة الكاماسوترا في السرير إلى غصن يابس ذابل.
هذه المعارف الشيطانية جعلتني أدرك بسهولة أن المرأة المكتنزة امرأة جائعة حتى النخاع، وأنها من أعلى رأسها إلى أخمص قدميها إنما كانت هضايا وجبالا وفيافي أنهكها الجفاف وصدَّعَ أرجاءها إلى أن كست تربتها الشقوق الغائرة، فجاءتني تستغيث وتطلب الاستسقاء، وكانت بحوزتي خزائن المزن التي ساقتها إليَّ سنوات الجذب الآخر الذي جثم عليَّ منذُ أقلعتُ عن عادة صرف نصف حوالتي في ملهى أو مرقص ليلي بغاية الرجوع إلى البيت متأبطا حسناء مثل عارضة أزياء في سن السادسة عشرة أو السابعة عشرة، ولكني أعود بجيب مقعد كسيح لا يقف في نهاية الشهر، وهو موعد استلام الحوالة الشهرية، إلا بعد أن يُذيقني أصنافا من الحرمان..
ولذلك، لم أسأل المرأة عن سر دعوتها المبيت عندي، لم أكثرت لواجباتها المنزلية وحقوق طفليها الأكيدين وزوجها المجلل بهالة الشك والاحتمال، لم أذكر حتى ذريعة اقتراحها المبيت معي. بمجرد ما حان وقت إغلاق حفل افتتاح المعرض وجدتني داسا أصابع يسراي في أصابع يمناها، مُحيطا كتفها بذراعي كأن بيننا عشق يعود إلى دهور ودهور. ومن داخل سيارة الأجرة الصغيرة كانت بداية المغامرة..
-------------------------
امرأة من سلالة الشياطيـــن
القسم الثانـي
اللهم استر يارب،
اللهم احفظ يا رب،
هذا ما قلته في خاطري قبيل أن نلج سيارة الأجرة. فقد كان السائق ملتحيا، يحيط رأسه بعمامة، أكثر من ذلك كان بصدد الاستماع إلى أحد الأشرطة الدعوية، لحميد الحميد كشك، إن لم تخني الذاكرة، هي حيلة يعمد إليها بعض سائقي سيارات الأجرة الصغيرة وحتى الحافلات لاستقطاب الناس. ومثل هؤلاء تكون رؤوسهم فوارة تغلي أو قنابل موقوتة تتحين أول فرصة للانفجار، إذ ما أن يصدر من الزبون ما يفيد أنه من الميؤوس استقطباهم حتى يقيم السائق القيامة. قد ينقلب الأمر إلى تبادل شتم وربما شوط ملاكمة بين الإثنين. وقلما يكون الركاب والمواقف مناسبة للإطاحة بمثل هذه الرؤوس على نحو ما أطاح به ركاب حافلة بين أكادير وطنجة، حيث أوقفوا الحافلة، ونادوا رجال الدرك، فاقتيد السائق على الفور إلى السجن فالمحكمة لينال 3 أو 5 سنوات سجنا جزاء على محاولته العبث بعقول الركاب.
وفي حالتي أنا والمرأة الشيطانة، كان يملك السائق الأعذار قاطبة لاقتيادنا لأول مكتب للشرطة وإيداعنا هناك بدعوى تدنيس مكان عمومي والميوعة والانحلال الخلقي وما إلى ذلك، ولن تنتظر الشرطة أكثلا من هذا لتقيم بسببنا القيامة وتقدم للصحافة مؤونة أسبوع من الأطباق اللذيذة والمبيعات الصاروخية ولملايين رواد المقاهي مأدبات يومية للنميمة اللذيذة وعبارات التشفي، إذ ما أن ستطالبنا الشرطة بالإدلاء ببطاقتي هويتينا، ونفعل، وتسألنا عن حالتينا العائلية فتكتشف أن المرأة متزوجة وأني مطلق حتى تفجّر قنبلة بقوة هيروشيما أو أكثر:
«الشرطة تلقي القبض على فلانة الملتزمة مسؤولة القطاع الاجتماعي والنسوية المعروفة بدفاعها عن المغتصبات والمطلقات وضحايا عنف الرجال صاحبة الكتب الخمسة في الموضوع المترجمة إلى سبع لغات، متلبسة رفقة معلم سكران» (بحروف بارزة ضخمة الحجم طبعا في الصفحات الأولى لجميع الصحف)
هذا ما سيعزفه مزمار وكالة المغرب العربي للأنباء، لتتبعه طبول الصحف المحلية وربما الدولية، ثم ينادي منادي: «حي على الصلاة حي على الفلاح»، وها هو زوجها يلبي النداء حاملا طفلته في يد وجارا ولده بأخرى، ليتبعه سكان الحي وأبي وأمي وإخواني وأخواتي وعشيرتي وعشيرة المرأة الخائنة، فنصلب في الشارع العمومي أو نقذف بالحجارة في قاعة المحكمة، وتقام لنا حملة دولية في الأنترنت، من أجل الإنقاذ والخلاص، على غرار المرأتين النيجيرية واليمنية اللتين وصلت حكايتهما إلى قبة الكنجرس الأمريكي وجزر الوقواق والثلث الخالي من الدنيا وأماكن أخرى ربما لا نعرفها جميعا..
مرت هذه الكوابيس مجتمعة في ذهني في لمح البصر، ارتفعت دقات قلبي إلى أن خلتها صارت تسمع من الخارج، فإذا بصاحبتي تعيد كل شيء إلى نصابه بمنتهى الهدوء والبرودة، غمزتني أن اصمت، فتولت هي مهمة التواصل مع السائق، حيته بفرنسية طليقة أنيقة، ودست في يده قطعة نقدية، ثم تجاذبت معه أطراف حديث قصير مُسَدَّد بدقة نحو الهدف كطلقات رصاص رماها قناص ماهر خبير؛ أفهمته أننا فرنسيين من أصل مغربي، نزلاء عند أقارب بعيدين لنا، وأننا كنا في السفارة، الخ. ثم ختمت الحديث بالتشكي من التعب، فما كان من السائق إلا أن أسكت الشيخ عبد الحميد كشك، واستبدله بموسيقى صلو هادئة، ارتمت الشيطانة على إثرها عليَّ وأغرقتني بالعناق والقبل. لم ير السائق شيئا أو تظاهر، خفظ سرعة السير، وتمايل من حين لآخر على عزف الموسيقى الجميلة.
في ثاني يوم من إقامتها معي في المنزل، أخبرتها بما راج في خاطري قبيل الصعود إلى سيارة الملتحي، قهقهت ضاحكة، ثم قالت:
- والله إنك لتفكر ببراءة طفل صغير. ثق بي أن صاحبك ذاك لن يكره النوم معي، قرأت ذلك في عينية ونبرة صوته، ثم لو كنتُ وحيدة وشئت الإيقاع به لما أفلت من قبضتي، لأطبقت عليه مثل دجاجة فما يكون للحديث بقية بيننا إلا فوق السرير وبين أكاليل زهورك الحمراء المحبوبة...
- ولكن هبي أن خطتك لم تفلح
- اسمع أخبرك من الآن فصاعدا، أنا قادرة على تدبر شؤوني مع الشرطة، أما شؤونك معها فلا، إن كنت خوّافا لهذه الدرجة فابق الاحتمال قائما: احتمال أن تلقي الشرطة القبض علينا في يوم من الأيام، ثم هيء منذ الآن سبُلَ إفلاتك من العقاب. اعلم أنه (=زوجها) لن يتركني أبيت ليلة واحدة في المخفر؛ إذا ما نادوه وقالوا له: ألقينا القبض على زوجتك متلبسة فسيقول لهم: وبعدُ؟ ! هي زوجتي تخونني، وأنتم ما دخلكم في الموضوع؟ هي زوجتي، فعلت ما فعلت وها أنا على علم بما فعلت، لقد سامحتها، فاخلوا سبيلها.. فيفحمهم إلى ألا يجدوا بدا من إطلاق سراحي، لكنه لن يخلصك من قبضتهم...
دخلنا إلى المنزل، سألتْ أين المطبخ، اتجهت نحو الثلاثة، استغربتْ:
- لا يوجد شراب؟ !
- ألازالت لك رغبة في السكر؟ لقد شربنا كثيرا...
- نعم، أريد أن أسكـر
- حاضر
تهيأتُ للخروج، قالت لن أبقى وحيدة في المنزل، دست يدها في يدي، ثم انطلقنا نحو أقرب سيبر ماركي، شعرتُ بأنني إنسانُ آخر. عاودني الحنين إلى زوجتي الأولى والثانية. أحسستُ أنني إنسان آخر لأنني لأول مرة، منذ طلاقي الأخير، أخرج مع امرأة في الشارع جنبا إلى جنب، بل وداسا يدي في يدها، وهو ما لم أقو إلى اليوم أن أقوم به مع أي واحدة من هؤلاء البنات اللواتي يزرنني في البيت متخفيات ويغادرنه متخفيات بتواطؤ مزدوج بيننا طبعا، لا مصلحة لهن في الجهر بالعلاقة كما لا مصلحة لي، ويكفي أن يُخلّ طرف بهذا الالتزام الضمني وها هي بداية أم المشاكل، يكفي أن تتردد إحداهن على منزلك مرات أربع أو خمس وتقدمها لأكثر من صديق، وها هي تنظر إليك بعين من زواج وتتصرف بيدين عمليتين: واحدة تسعى لإقامة الحجة والشهود عليك والأخرى تنادي العدلين والقاضي وتفكر في أمور الحبل ومستشفى الولادة وما إلى ذلك من الالتزامات العائلية التي هشمت أضلعي تهشيما..
لحظة تسديد ما تبضعناه معا كدنا نشتبك بالأيدي أمام صاحبة الصندوق: أنا أخرج قطع النقود من جيبي وأضعها أمام العاملة والمرأة الشيطانة تحمل النقود وتعيدها إلى جيبي بعنف مستبدلة إياها بنقودها... أيقنتُ أنني أمام امرأة كريمة، تأكد يقيني في اليوم الرابع، لحظة الوداع؛ وضعتْ خلسة ظرفا بريديا مغلقا في غرفة النوم، ولحظة ركوبها سيارة الأجرة الصغيرة فقط أخبرتني بما فعلت قائلة:
- بمحاذاة السرير، فوق المائدة الخشيية الصغيرة، ستجد ظرفا بريديا أصفر اللون مغلقا، إياك أن تمزقه أو تلقيه في سلة المهملات، خذه، فهو لك، فتحته، فإذا به مبلغ 2000 درهم، حوالي 200 دولار، قلتُ: لو كانت كل البنات اللواتي ترددن على بيتي منذ طلاقي إلى الآن من هذه السلالة، لما كنت مدينا اليوم للأبناك بمبلغ 000 10 دولار، بل لربما كنتُ غادرتُ سلك التعليم وأقمتُ مقاولة حرة صغيرة بدل أن أدوخ رأسي يوميا مع الأطفال الصغار في حجرات درس مهترئة يمكن أن تسقط فوق رأسي في أية لحظة.
في المنزل، كدنا نشتبك بالأيدي تماما كما لحظة الأداء بالسيبر ماركي؛ قالت: لن تبلل يدك بقطرة ماء، ثم اتجهت إلى المطبخ لتهيء عشاء لذيذا اختارت له ضروبا من الأطعمة والسلطات لم يسبق لي أن ذقتها إلا في مطاعم. أمام إلحاحي على مساعدتها، بل وخدمتها خشية أن تصنفني ضمن فئة الرجال الذين يمتنهنون المرأة في شؤون الطبخ وتربية الأبناء، كان جوابها صارما:
- لا، نقتسم المهام؛ أنا أهيء العشاء وأنت تهيء لوازم الفراش، انظر ما في خزانتك من كتب فن الحب عند العرب أو غيرهم، ثم «هَيِّءْ لي»(1)، لك كامل الوقت.
وذاك ما كان؛ أخرجتُ «الروض العاطر في نزهة الخاطر» للنفزاوي و«رجوع الشيخ إلى صباه في قوة الباه» لأحمد بن سليمان بنسختيهما العربية والفرنسية، و«نزهة الألباب في ما لا يوجد في كتاب للتيفاشي»، و«الكاماسوترا. فن الحب عند الهنود» لمالاينجا فاتسيايانا، بل تكرمتُ وزدتُ فبحثُ عن حزمة من الأشرطة البورنوغرافية، بعضها فيديو وبعضها الآخر أقراص مدمجة، كان سلمني إياها صديق أعزب في أحلك مراحل نشاطه النقابي في سلك التعليم؛ قصد بيتي في منتصف الليل وقال: إني أحس أن الشرطة تتعقبني تعقبا، عيونهم مفتوحة علي ليل نهار حيث طالت حتى علاقاتي العاطفية ومغامراتي الجنسية، وإني لأتوقع أن يداهموا بيتي في أية لحظة، فيعثرون على هذه الأشرطة وتكون فرصة ذهبية لإلقاء القبض علي ومحاكمتي بتهمة الفساد.
وكنتُ خططتُ لإلقاء هذه الأشرطة في البحر بمجرد طلوع شمس يوم غد لولا امرأتان: زوجتي الثانية وبريجيت باردو:
بريجيت باردو قالت في تدخل لها في شريط وثائقي بإحدى القنوات الفرنسية، لم أعد أذكر عنوانه (ربما: «التبادليون»، ربما «الحياة الجنسية عند الفرنسيين») ما مضمونه:
- لا ننس أن للأشرطة البورنوغرافية وظيفة اجتماعية تتمثل في كونها ملاذا للمحرومين الذين لا تتيسر لهم سبل وإمكانيات الجماع الفعلي.
لا أشاطر بريجيت باردو مواقفها العنصرية ضد الإسلام والمسلمين، حيث تتهمنا بممارسة جريمة إبادة سنوية في حق الخرفان، يوم عيد الأضحى، وهي التي نذرت ما تبقى من حياتها للدفاع عن القطط والكلاب والبقر والحمير وغيرها من الثدييات وآكلات اللحوم، ولكني أحترم رأيها الثاني وأرى فيه عين الصواب، إذ خيرٌ لمن ضاقت به سبل الوصول إلى النساء، جرّاء قصر ذات اليد أن يستمني فعليا أو ذهنيا مستلذا بمشاهدة شريط، بدل أن يغتصب النساء في الشوارع على نحو ما فعل أحدهم بزوجة طبيب، حيث ما أن انحنت في سوق عمومي للخضر والفواكه، لتنتقي بعض مشترياتها، وكانت ترتدي تنورة قصيرة شفافة تبرزُ لون التبان الأبيض ولون لحم الردفين، حتى أخرج الوحش الذي كان قد خرج للتو من السجن سكينا وهدد المرأة بدسه في بطنها إن حركت ساكنا، فما كان منها إلا أن استجابت له؛ رفعَ التنورة وخلع تبان المرأة ودسّ شأنه في شأنها على مرأى ومسمع من رواد السوق وباعته، بل وكنتها، وهي أم زوجها، التي كانت رافقتها للسوق من أجل التبضع، فما أخلى سبيلها إلا بعد أن قضى منها وطره، ثم لاذ بالفرار وتسلق أحد الأسوار واختفى وسط حشد الموتى في مقبرة.. لهذا السبب، وجرائم جنسية أخرى تتفنن صحف اليوم في سردها بما فيها أكثر الجرائد جدية، بل وحتى مجموعة كبيرة من المواقع الإلكترونية الإخبارية والمنتديات، قلتُ لبريجيت باردو:
- إني لأخلع قبعتي احتراما لك، رغم أنك تتطاولين على ما لا نتطاول عليه؛ لم نسمع بملسم واحد رفع دعوى قضائية ضد المسيحيين بسبب طقس ديني يهم الكنيسية الكاثوليكية أو البروتستانية.
أما لزوجتي الثانية، فقلتُ:
- لا، لن أخلع قبعتي احتراما لك ولن أخلع؛ لسبب واحد ووحيد، وهو:
أنها لم تبن رغبة الاحتفاظ بتلك الوثائق السمعية البصرية على أي دليل عقلاني مقنع؛ بل إنها اضطرتني اضطرارا للكشف عن الأشرطة الفاحشة - وما وددتُ إطلاعها عليها في الأصل - بعد إخضاعي لاستنطاق بوليسي لا يقوى عليه أنبه المستنطقين في سلك شرطة إرادة التراب الوطني وأعتاهم؛ فأمام إصراري على الطابع السري للوثائق ذهبت بها الشكوك في كل مذهب؛ ما يخطر على البال وما لا يخطر؛ من احتمال أن يتعلق الأمر بأشرطة بورنوغرافية أكون بطلها مع بائعات للهوى رسميات وسريات وضحايا بغاية التصدير إلى الخارج على نحو ما تطالعنا به الصحف من حين لآخر، حيث يقال: تم تفكيك شبكة بزعامة هذه العجوز أو تلك، هذا الأجنبي أو ذاك وكان وصل ديارنا متنكرا بهيأة مقاول أو صحفي، مرورا بانتمائي المحتمل لتنظيم القاعدة، مما يفيد أن الأشرطة قد تضمن تعليمات لتنظيم خلايا جهادية وأخرى لصنع أسلحة تقليدية وكيماوية وغيرها، وصولا إلى احتمال تسخيري من لدن جهة ما للمشاركة في تنظيم انقلاب عسكري على السلطات المقدسة بالبلاد، وهو ما يعني أن الأشرطة قد تتضمن خطبا للإلقاء بعد الانقلاب الوهمي ومخططات تنظيمية أخرى وصور الزعامات المقبلة، وما إلى ذلك من الترهات والأباطيل. كست جسدي قشعريرة، وقف الشعر في رأسي، كاد القلب يطير خفقانا، لأنني أيقنتُ أنها ستفتعل الغياب في الحمام أو غيره، ومن هناك ستدعو الشرطة للقبض علي والتحقيق معي. فالسنوات الخمس التي قضيتها معها كانت كافية لتجعلني أتوقع ما يصدر عنها في هذا الموقف أو ذاك. وكانت توقعاتي على الداوم صائبة، إلا هذه المرة، حيث فاجأتني بما لم يخطر على بالي في يوم من الأيام:
...