زاد في الطين بلة أن زوجتي، نكاية في أمي، تحولت إلى وحش جنسي بمعنى الكلمة؛ فصارت لا تقنع بأرجوحتين في الأسبوع؛ طلبت ثلاثا، فأربعا، فخمسا، إلى أن صار لا شغل لي بعد الدخول إلى المنزل إلا التأرجح والقطاف والسجود، فما مضت سبعة أشهر حتى صرتُ أمشي مقوَّس الظهر؛ انتشر ألم مزمنُ على مستوى البروتستاتا، كما في عمودي الفقري وعُصْعُصًتي، لم ينصرف إلا بعد مرور حوالي 4 أشهر عن طلاقي صمتُ فيها صوما تاما عن النساء وتناولتُ أدوية عديدة.
خلال ذلك، كانت زوجتي تزداد بهاء فيما كانت أمي تزداد ذبولا، بل ساءت حالتها كثيرا ففقدت حوالي 15 كيلوغراما من وزنها وصارت تشكو آلاما عديدة لم تفض التشخيصات ولا التحاليل الطبية العديدة التي كلفتني ثروة طائلة إلى تشخيص أي مرض مسؤول عنها؛ تقول:
- كل شي يوجعني؛ ظهري ومفاصلي وركبتاي وما بين كتفي وعيناي، الخ.
وكنتُ أعلم علم اليقين أن آلامها لم تكن سوى طرق ملتوية للتعبير، ربما لا شعوريا، عن حرمان جنسي كبير دام، منذ وفاة أبي. حرمان سيكون مهولا لامحالة إذا كانت لم تنجح في الفوز بمغامرات مسروقة مع رجال عابرين. نعم كانت زهرتها قد ذبلت وأوشكت على الفناء، تمزق قلبي حسرة عليها. صارحتها:
- اسمعي يا أمي! أصل آلامك قاطبة ذبول زهرتك! أمامك دواء واحد ووحيد هو أن تشرعي محرابك. لك أن تتدبري أمر العثور على إمام للصلاة؛ من جهتي سأقوم بالواجب، سأغطي تكاليف العرس، وأكثر من ذلك سأسكنكما عندي هنا، وسأدعو لكما دائما بالتأرجح اللذيذ والدائم.
توقعتُ أنها ستفرح، فإذا بها تتصرفُ التصرفَ ذاته الذي كانت تلوذ به كلما حدثتها عن الجنس عندما أشرفت على البلوغ؛ كنت أقول لها:
- أمي! ياه! تجملت اليوم وتعطرت، وأصبحت مثل عروس ممتلئة حيوية ونشاطا! لاشك أنك أبي قد أركبك أرجوحته ليلة أمس! بالصحة والهناء! والله لو كان باستطاعتي لطلبت منه أن يصرف الليالي ناسكا متعبدا في محرابك ليدوم شبابك ونشاطك وحيويتك وتصيرين كالزهرة الجميلة الخالدة بيننا!!
كانت تلتلفت يمينا وشمالا، تمسك بأقرب شيء إلى يديها (مكنسة، إناء، قطعة خبر، فاكهة، الخ.)، ثم تلقيه علي وهي تمطرني باللعنات وتضحك في الآن نفسه:
- سِرْ لعنات الله عليك أيها الشيطان! اغرب عن وجهي لعنات الله عليك!
كنتُ فكرتُ في قول الشيء نفسه لأبي، لكنني أحمد الله لأني لم أفعل؛ فقد حصل، قبيل أن أحدثه في الموضوع، أنني كنتُ أتصفحُ كتابا في الفن التشكيلي في عصر النهضة الأوروبية، وكان هو يرمقني من بعيد، فما وقعت عيناه على صور أجساد عارية، مثل اللوحتين الرائعتين «ولادة فينوس» لبرتشللي، و«خلق آدم» لميشال أنجلو، حتى وثب على الكتاب وأمسك قلم باركر واعتدى على الصور بمنتهى الوحشية؛ حجبَ الأعضاء التناسلية تماما بخطوط سوداء سائرة في جميع الاتجاهات... أجهدتُ نفسي في انتزاع اعتراف منه بالخطأ، لكن دون جدوى. أكثر من ذلك عندما أريته لوحة الجوكندا قال: هذه «هذ\ه قردة مسخها الله بهيأة آدمي» !
الإضافة الجديدة الوحيدة، في رد فعل أمي، أنها لم ترفق لعناتها بالضحك؛ بل أعقبتها بما اعتبرته حجة «دامغة» لوجوب الاعتراض. قالت:
- لا، لا، أبدا أبدا! أنا وأبوك رحمه الله تعاهدنا: إن يسبق أحدنا الآخر إلى الدار الآخرة يترمل المتخلف إلى أن يلحق به!
لعنتُ أبي، لأنه لم يكتف بفرض وصايته الكاملة على ضريح أمي خلال حياته، بل وواصل هذه الوصاية من داخل قبره؛ أمم محراب أمي في الدنيا والآخرة، ولذلك كان طبيعيا أن تصير شبيهة بأفعى أو عقرب دائمة التأهب للسع كل من دما منها أو دت منه.
خططتُ لإلحاقها بالعجائز اللواتي كنَّ يملأن بيت الصديق الذي سلمني الأشرطة البورنوغرافية والأقراص المدمجة، ولكن كان من سوء حظي أنه اختفى مباشرة بعد ذلك؛ فقد كان يقتسم شقته مع بائعي أثواب وضعتهما الصدفة في قلب شبكة من العجائز تأتين من الدار البيضاء إلى الرباط خصيصا للاستشفاء في أضرحة العزاب والمطلقين؛ تجتمعن فرقا، يتألف كل واحد من أربعة إلى خمس نساء، ويوهمن أبنائهن وبناتهن بأنهن في سفر إلى أحد أولياء الله الصالحين في الرباط، مثل سيدي بنعاشر وسيدي العربي بن السايح، بل وحتى سيدي موسى بسلا، حيث سيقمن بضعة أيام في ضريح الولي للاستشفاء من الأمراض الشبيهة بآلام أمي، فيأخذن حافلة إلى الرباط ويقصدن بيت المعلم وبائعي الأثواب، ويصرفن الأيام في العبادة والاستشفاء والاستسقاء والرقص والغناء إلى أن تعدن عقودا إلى الوراء.
كنتُ سأسوق لها واحدة من هذه العجائز، فتدعوها لمرافقتها إلى المسجد، وبعد ذلك تخرجها لنزهة، ومن ثمة تأخذها إلى بيت « قريب» لها... هناك سيروق الحالُ أمي كثيرا، لا سيما عندما ستجد نفسها وسط جماعة من النساء في سنها، بينها وبينهم أوجه شبه شتى، وبما أن أمي على مذهب الجماعة، فإنها لن تتردد في لعب الأدوار التي ستمليها عليها هذه الجماعة.
أمام تعذر هذا الحل، والذبول المتزايد لأمي فكرتُ في حل آخر: أضعها على صلة بامرأة سحاقية، وقدرتُ أن ذلك سيُسعدها كثيرا، لا سيما أنه لن يزيحها قيد أنملة عن سكة الوفاء لأبي، ولكن المشكلة أنَّ والدتي امرأة مسنة وبدينة؛ ليست على ذوق أي واحدة من جمهرة السحاقيات العصريات الجميلات الأنيقات اللواتي يجهرن بمثليتهن الجنسية في المقاهي والحانات، بخلاف المسنات والعجائز اللواتي يفضلن الاسمتاع بأجساد بعضهن بعض في الحمَّامات بمنتهى السرية وبطرق قلما تكون صريحة. استعملتُ حول هذا النوع من الحمَّامات فدلوني على أكثر من واحد. اخترتُ الأقرب إلى المنزل، وفرضتُ على أمي التوجه ثلاث مرات في الأسبوع عساها تروق إحداهنَّ فترتبطان بميثاق سرِّي، ولأجل ذلك قدمت رشاوي للمسؤولات عن الحمام، ولكنها لم تصمد أكثر من أسبوعين، لم يفتح الله فيهما علينا بأي حل للأسف الشديد، بعدهما اتهمتني بأن حرصي على ترددها كل هذه المرات على الحمام كان طريقة في التشكيك في نظافتها..
آنذاك طلقتُ زوجتي وأعدتُ أمي إلى من حيث أتت.
انتشلني من ذكريات خاتم الزواج الحزينة طرقٌ متوال في باب المنزل؛ انتشر خبر زواجي انتشار النار في الهشيم بين صاحباتي، كأنهن محطات بث إذاعي متنقلة، فهرعن إليَّ جموعا وفرادى إلى أن امتلأ المنزل عن آخره بالزئرات. والله لو حضر غريبٌ لخيل إليه أنه إما في ضريح مولاي عبد القادر الجيلالي أو في حفل أو مأتم أحد الأعيان؛ بعضهن جاء للتبريك الصادق، وبعضهن للتهديد والوعيد، وآخر – وهذا الغريب في الأمر حقا – أتى لانتهاز الفرصة ونسج علاقات مع نساء وبنات جميلات ستنتهي لا محالة في بيوت أخرى وأسرَّة رجال آخرين، وهو ما كنتُ حرَّمته عليهن تحريما قاطعا؛ «غير وارد إطلاقا أن تتخذي من بيتي فضاء للتعارفات المشبوهة. أتحسبين بيتي ماخورا أم تحسبينني قوادا؟»، قلتُ على الدوام لكل نزقة تجيء فتجدني مع بنت أخرى باهرة الجمال وتسعى لفتح حديث حميمي معها ينتهي بتبادل رقمي الهاتف أو نسج صداقة تنتهي في أسرة رجال آخرين ... هؤلاء أطلقتُ عليهن اسم «الخارجات» لعجزي عن إيجاد تسمية أخرى. وأي تسمية أنسب ! فقد الزائرات على شكل حلقات منتشرة هنا وهناك في أنحاء المنزل أبداهنَّ مثل فرق كلامية تتجادل في تأويل نص زواجي.
سألنني مبهورات بنبرة لا تخلو من سخرية وعتاب:
- إيوا؟! ما أمر هذا الزواج المبارك؟ !
أطلقت العنان لخيالي، فرحتُ أقص عليهن حكاية ملحمتي الجديدة:
- والله هي حادثة أخرى أحكيها لكنَّ مثل خرافة؛ خلال العطلة الأخيرة، زرت والدتي، فسكرتُ وخرجتُ في نزهة، ابتسمتُ لواحدة، أجابتني بابتسامة، دعوتها للعب، قبلتْ فورا، تزلحقنا قليلا في الفراش. وبعد شهر زعمت أنها حبلى مني، وهددت: الزَّواج أو المحكمة! حمي رأسها عندما ادخلتها لبيت والدتي وقدمتها لها... بل وجدت في أمي سندا لها وشاهدا على أتم الاستعداد للإدلاء بشهادة الحق...
- وأين فطنتك ودهاؤك؟! أم أنهما لا يحضراك إلا معنا؟ والله إنها لبنت تستحق كل التقدير والاحترام! أعطاها الله الصحة والعافية!
- ها هاي! لو رأيتن أباها!! (وأنا أرسم برأسي دوائر) لا يعرف ذرَّة مزاح، بل إن قتلَ إنسان عنده مثل قتل ذبابة. أكثر من ذلك هو ملتحي!!! والله لو دخل اللحظة وشاهدكن بهذه الشعور المنسدلة والأفخاذ العارية والسجائر في أفواهكن لشن عليكن غزوتي تبوك وأحُد فيخلف من الساقطات منكن أكثر من الواقفات!
- ويلي ويلي ويلي! الله يعطيك الذل! كأن شأنك صار فضلة، وصرتَ تصدقها على من هبت ودبت ! ها أنت تنال جزاءك !!!
كان بإمكاني اختلاق قصة أخرى كأن أزعم أنني تزوجت امرأة عصرية ثرية، قاصدا بذلك المرأة المكنزة نفسها، ولكنني عدلتُ عن هذه الوجهة للحكي مخافة أن يتمسكن بمطلب إقامة حفل عرس، من جهة، وخوفا من المرأة المكتنزة نفسها التي كانت قالي لي إنها، لدوام العشرة بيننا، ستستهون مني كل شيء سوى واحد: أن تفاجأ ذات قدوم لها إلى منزلي بوجود امرأة أو بنت في المنزل ولو كانت الزيارة لصداقة لا غير، فاصطنعت حكاية اللحية والمذهب المتشدد لجعل فكرة إقامة حفل للزواج غير واردة إطلاقا.
علت جلبة من الضحك والحسرة، أعقبتها جدالات وتفسيرات وتأويلات، ذهبت في كل اتجاه، لم يقطعها إلا مجيء طبيبة الأسنان التي وحدها آثرت البقاء خارج المعمعمة والتغريد خارج السرب، ربما لطبعها المتكتم الذي أظهرته لي طلية ارتباطي بها؛ دخلت المنزل ونادتني بإشارة من بعيد، دسَّت في يدي ظرفا بريديا، ثم قالت: «مبروك مسعود !»، وانصرفت كما صرفتني يوم قطفت زهرتها «بخطة إبليسية»، على حد تعبيرها مباشرة بعد أن نزلتُ من أرجوحتها عقب القطاف؛ يومه، استغفلتها وهي منهمكة لمعالجة ضرس لي، تظاهرتُ بالتألم الشديد، ثم وضعتُ صفحة كفي في معصمها وطفقتُ أسترق اللمسَ بمنتهى الحذر وأنا أصعد شيئا فشيئا إلى أن أنضجتها، ولما أيقنتُ نضجها حاذيتُ بيدي فخذها، ثم رفعتُ التنورة وزحفتُ نحو المحراب؛ احمرت وجنتاها، ابتسمت، ألقت بالآليات جانبا، ثم قالت لي:
- قل لي بالضبط ماذا تريد مني!
غمغمتُ في وجهها بكلمات، والله لم أعد أذكرها، فما كان منها إلا أن استسلمت، فعانقتها، وغرقنا في قبلات رومانسية عميقة ما أفقنا بعدها إلا وقد تحول سرير الجراحة إلى بساط ريح يحلق بنا في الأجواء العليا؛ سجدتُ في محرابها طويلا إلى أن ابتهجت ورضيت عني، فكافأتني بحصص من العلاج المجانية وزيارات منزلية قطعتها فجأة لسبب لم تطلعني عليه أبدا إذ آثرتْ أن يبقى طي الكتمان، فصارت لقاءاتنا العرضية تقتصر على تبادل التحايا والابتسامات، وتقصي الأحوال الصحية وظروف العمل لا غير، وبذلك لم أعرف إلى اليوم أكانت متزوجة أم مطلقة، إذ كلما كنتُ أمعن في سؤالها كانت تتبرم بحذر شديد وتحول مجرى الحديث إلى وجهة أخرى:
- لقد نجحتَ أيها العفريت، بخطة إبليسية، في إيقاظ حنيني لأيام كنتُ طالبة في كلية طب الأسنان؛ أدخلتني الحديقة ذاتها التي كان يُدخلني فيها أستاذ مادة الجراحة في حصص التطبيقات، وبينكما – سبحان الله – شبه كبير...
قالت جماعة:
- لا نصدق أبدا هذا الزواج، ولنترك حكمه لما ستأتي به الأيام من أخبار !
قالت أخرى:
- هو حكم الأقدار والمكاتب؛ كان مكتوبا في الغيب أن تنتهي صعلته على يد هذه البنت !
كأنني الآن ملك قبيلة بدائية ماتَ أو أطيحَ به فرُفعت الأحكام وعمَّت الفوضى ربوع المملكة. اسمعوا ما قالت إحدى الخارجات وقد تحدتني، عندما ضبطتُها مختلية بالشرطية تدوِّنُ رقم هاتفها وتعدها بسهرة جميلة في نهاية الأسبوع مع «قناة كبيرة» (كذا، سجلتُ وأنا أتساءل: ما هذه الشفرة الكلامية؟ ما معنى أن يكون الرجل قناة صغيرة وما معنى أن يكون قناة كبيرة؟)؛ قالت متحدية:
- كنتَ وصيا علينا من قبل. أما الآن وقد تزوجت، فلا حكم لك إلا على زوجتك! ادخل سوق رأسك!
ثم نفثت في وجهي نفسا طويلا من دخان سيجارتها !
الشرطية اختارت التقية؛ قامت من وسط حلقتها، ثم أخرجت من حقيبتها اليدوية هاتفا نقالا فاخرا، وأهدتني إياه على مرأى ومسمع من الحاضرات جميعا. استكثرتُ الهدية، فإذا بها تستدرجني إلى المطبخ حتى إذا اختلت بي قالت:
- خذه والله لم أخرج سنتيما وحدا من جيبي؛ هو لعميد شرطة دائرتنا؛ سرقته له؛ استغفلته لما اختلى بشرطية في المكتب، واستغرق في قطف زهرتها، فسطوتُ عليه؛ هو من عادته إبقاء الهاتف خارج المكتب كلما قعد في محراب شرطية، لكي لا تحرجه مكالمة من زوجته في مثل هذه الظروف...
- ولكن لا حاجة لي إلى هاتف، عندي هاتف، عندي هاتف؟!
- لا، لا، أعرف، أعرف. اسمع ! احتفظ بالإثنين؛ الرقم الجديد سيتيح لنا البقاء على اتصال دون علم زوجتك؛ لا تشغل هاتفك الجديد إلا عندما تكون خارج البيت، فنرتب أمور دوام الاتصال بيننا.
قالت ذلك، ثم أشرعت ذراعيها، لبيتُ النداء؛ ارتميتُ، غرقنا في العناق والقبلات إلى أن بلغَ صدرانا وشأنانا خط التماس؛ هناك التصق الجسدان، خُطفنا، حلقنا في السماوات العليا، فما أفقنا إلا على صُراخ جماعة من الحاضرات من حولنا، وهن يحتججن على الشرطية، ويتهمنها بـ «السطو على زوج امرأة»، قالت زعيمتهن سليطة اللسان:
- اسمعي يا ست! ما هذه الأنانية؟ ما هذه القسمة الضيزى؟ أم تحسبين هذه البذلة تبيح لك ما لا تبيحه لغيرك؟ والله لن تفعليها ولو كنت جنيرالة في الجيش! وإلا، فنحن أولى منك..
قالت ذلك ثم غمزت أخريات فإذا بهنَّ يثبن وثبة لاتنزاعي من ذراعي الشرطية التي تمسكت بي. فقدنا التوازن، سقطنا فوق الأرض، وجدتُ نفسي في الوضع نفسه الذي وجدتني عليه مع المرأة المكتنزة يوم أحضرتِ العاملات الثلاث لتنظيف البيت... مثل الشغالات الثلاث تآزرت النساء، نجحن في تخليصي من قبضة الشرطية، لكنهن تمادين فقمن علنا بما لم تقو العاملات على القيام به إلا خلسة (خوفا من المرأة المكتنزة طبعا): سحبنني إلى بهو المنزل، أغرقن وجهي وجسدي بالقبلات وهنَّ يمددنَ أيديهنَ ويعبثن به، وهو ما اعتبرته الشرطية إهانة كبرى سخرت جميع الوسائل لدفعها. ولولا لطف الله لانقلبت الزيارة إلى مأتم، لأن صاحبة البذلة فقدت صوابها في غمرة الشتائم التي أمطرتها بها سليطة اللسان، فأخرجت المسدس وصوبته نحوها. لزمَ تسخير حيل الدنيا لتهدئتها إلى أن انصرفت عن طيب خاطر ، وتترك ذهني نهبا للوساوس: ماذا لو أحضرت الآن دورية للشرطة لإلقاء القبض على سليطة اللسان وجماعتها؟ ماذا لو ساقت الشرطة إلى المخفر كل من في البيت؟ ماذا لو فتشتني الشرطة وعثرت بحوزتي على الهاتف النقال للعميد؟ أصابني الهلع، مرقتُ من المنزل لبضع لحظات تصدقتُ فيها بهاتفي الجديد على أول معوز من هؤلاء الشحاذين الأثراء الذين يترفعون عن استلام نصف دولار أو قطعة خبز أو زلافة دقيق لأن حاجياتهم أكبر من هذا بكثير، وهم لا يجدون حرجا في التعبير عنها صراحة:
- هاتوا كبشا رحمكم الله! هاتوا دراجة هوائية رحكمكم الله! هاتوا ما أقضي به الليلة في حانة غفر لكم الله!...
أمطرني مستلم الهاتف بدعوات الخير والبركة والصحة والعافية والنجاح والنجاة، إلى آخر الأغنية، فرجعتُ للمنزل مسرورا.
اعتبرت سليطة اللسان هدية الشرطية إهانة، فاقترحت الاكتتابَ لإحضار «هدية زواج حقيقية»، وهو ما قبلنه فورا، فتبادلن الآراء والاستشارات، وتهيأن لمغادرة البيت. آنذاك تأكد لي أن لبعض النساء عقولا صغيرة في حجم رأس السبابة أو أقل؛ وربما كان من قدري أو من سوء حظي أنني لم أنل حظوة حتى اليوم إلا لدى هذا الصنف منهن...
ظننتُ أن الهدية ستكون عبارة عن حلويات أو جوارب أو أقمصة أو حتى مجرد مساهمة بقنينات خمر وسجائر مقابل أن أهيء لهن مأدبة، فنسهر جميعا وينتهي الأمر، ولكن يا للهول ! فقد غادرنَ المنزل وهن ينشدن:
- الصلاة والسلام على سيدنا محمد. الله مع الجاه العالي !
تعقبها زغاريد كانت من الطول والتكرار بحيث تهاطل الجيران على المنزل واجتمع الأطفال بالباب.
ها هي مزحة صغيرة صارت جدّا قدريا لا مردَّ له! ها هي قيامة حقيقية تقوم ولا شيء وراءها سوى نزوة امرأة مكتنزة طاب لها أن تنازل معلما في سرير نومه عقابا له عن زلة لسان أو سلوك طائش صدر منه ليلة المعرض المشؤوم !
ما مضت حوالي ساعة إلى ساعة ونصف حتى وصل موكب هدية العرس؛ وصل مستوفيا شروط طقوس هدايا الزفاف قاطبة؛ تقدمت الجماعة عربة، يجرها حصانان، محمَّلة بدقيق وسكر وزيت وحلويات ولوازم المطبخ وبعض الأفرشة، بل وحتى بحلي وملابس «للعروسة». وراء العربة سارت مجموعة موسيقية تفنَّنت النساء في اختيارها؛ جوقة عصرية أشبه بمجموعة موسيقية عسكرية، تعالت الزغاريد، صاحب العزفَ الموسيقيَّ رقص تباهت به النساء وتنافسن فيه.... وقبل أن يصل الموكب إلى المنزل، كان قد جاب شوارع عديدة، فكان صحيفة لنشر الخبر في أرجاء الحي ليعلم الجميع أني تزوَّجتُ...