انصرفتُ أستعرض زوجاتي المحتملات ممن عرفت من النساء والبنات، ثم يا للهول! ماذا أرى؟ ها هو الشاب الذي شاهدته قبل لحظات مع زوجته الشابة يعود، يقف أمام باب بيتي، طرق باب منزلي طرقا خفيفا. خرجت الريفية والمرأة البدينة، علت وجهيهما ابتسامة مشبوهة، اختفى الثلاثة داخل البيت. لا حاجة لبذل مجهود لفهم هذا الشريط الواضح وضوح الشمس: أوصل الزوج الشاب زوجته إلى سيارة أجرة ثم أوهمها أنه ذاهب للعمل وعاد ليعمل في أفخاذ النساء... علت موسيقى أحد أغاني فرقة إنيغما. أيقنت أنه ينيك الآن إحدى المرأتين أو هما معا. لعنتُ الجميع، أدركت الآن فقط أنه فعلها بي يوم عدتُ دون سابق إعلام إلى البيت أيام كانت الريفية تقيم معي، ووجدته في منزلي. كانت الصورة التي أحملها عنه أكثر من أن تقنعني بإحاطته بشك أو شبهة. قالت الريفية:
- أنا التي ناديته، ليساعدني في إصلاح قنينة الغاز؛ تسرَّب الغاز من الفرن، خشيت انفجار القنينة، خرجت إلى الحي أستنجد بأول مار، فصادف أن كان جارنا!
- أووووه ! حمدا لله على السلامة، والله إني لا أملك كلمات لشكرك يا جاري العزيز!، قلت للخائن الذي مضى والفرحة تطير من عينيه، دون شك، لأن الحظ تأخر بي، فلم أضبطه نائما في غرفة نومي مع صاحبتي.
هاي هاي!! ما أراه أغرب من الخيال! صار بيتي محجا للزناة واللوطيين والسحاقيات وأنا على قيد الحياة؟! هذا كله يحدث في منزلي وأنا قاعد في دار غفلون؟! كأنني كنت من أصحاب الكهف! لأجاهدنَّ فيهم وأنال الأجر والثواب. غادرتُ الحي مصمما على شراء مُدية أو بندقية؛ أترقب أن يحتشد أكبر عدد منهم في البيت، ثم أقتحمه وأخلف من الساقطين على الأرض أكثر من الواقفين!
نزلتُ إلى سوق المستعملات، اشتريتُ بندقية جملية مُجرَّد نظرة فيها توقظ غريزة القتل ولو كانت نائمة منذ قرون؛ مقبضها الخشبي ناعم مثل ريش حمامة، يستحيل أن تقع في يد أحد دون أن يتمنى تحرير أحشائها مما تمتلئ به من الرصاص.
نمت معانقا إياها مثل امرأة، رأيت أحلاما كابوسية؛ شاهدتُ أفخاذ نساء تتطاير في الهواء ونهودا تنزل من السماء كعناقيد العنب وشعورا تتحول إلى أسرة ووسادات دما كثيرا لصق بالجداران، حاولتُ مسحها، وجدتُ نفسي أمام لوحة شبيهة بلوحة غرنيكا لبابلو بيكاسو (انظر الصورة المرفقة).. في الصباح، قال لي حارس الفندق:
- لو لم تترك المصباح مشتعلا لكنتَ الآن في مستشفى أو في مخفر الشرطة؛ صرختَ بأعلى صوتك: ماما! ماما! وكنا على وشك استدعاء الشرطة، خشية أن يكون اقتحم غرفتك لص، ولكن لما أطللنا من ثقب الباب وجدناك تحلم...
قبل أن أنام وضعت خطة محكمة لن تتيح لي أن قتل كل من سيكون في البيت فحسب، بل وكذلك أن أخرج من المغامرة سالما وأفلت من العقاب. هذا هو السيناريو الذي وضعته:
لن أصل الحي إلا بعد الغذاء وشروع سكان الحي في الالتحاق بعلمهم، فبعد هذا التوقيت تقلّ الحركة في الزقاق، ويشرع الوافدون في التسلل إلى منزلي. سأصل وأقعد متربصا، وما يمتلئ البيت حتى أقصده، أطرق، وبمجرد ما يُفتح لي الباب أقتحم المحل وأشهر بندقيتي في وجه الجميع، سأقتل الريفية فورا؛ فهي لا تسمن ولا تغني من جوع، وأشفعها بنعيمة واللوطيين وما تبقى، في حين سأعذب المرأة المكتنزة وزجها والمديرَ تعذيبا: سأسدد طلقات في أطرافهم، أتركهم يعتصرون ألما أكثر ما يمكن من وقت، وبعد ذلك فقط أوجه لهم الطلقات الرحيمة في الرؤوس والقلوب، ثم أسكب بنزينا في الجلباب والعمامة والنظارتين الشمسيتين، وباحتراقها سيحترق الأعمى الضرير الذي كنت إياه ويتبخر إلى الأبد، لن يعثروا عليه ولو اهتدوا إلى الفندق؛ كان من حسن حظه يوم اكترى الغرفة أن عثر على بطاقة وطنية لبدوي من ضواحي الرباط، ولما أراد أن يقدم لعامل قسم الاستقبال بطاقته الحقيقية خرجت بطاقة البدوي خطأ، فلم يفطن الموظف للفرق بين صورة البطاقة ووجه الزبون الواقف أمامه، ولتبديد أي شك لاحق أغدق الساكن الجديد على الموظف من الهدايا ما جعله لا يناديه إلا بلقب «الحاجّ»... بعد قتل الجميع سأرتدي إحدى بذلاتي، ثم أقفز من النافذة الخلفية للبيت وأطلق ساقي للريح. خطة لا يقوى عليها إلا الشياطين، لكن أليس وراء الأمر امرأة تنحدر من سلالة الشياطين؟ !
دقت الساعة الثانية بعد الزوال، جلستُ قبالة المنزل أشحذ، والبندقية تحت جلبابي. مر الوقت بطيئا مثل بركة راكضة، ساعة دون أن يتحرك في البيت ساكن رغم أن نوافذه كانت مشرعة وصوت الموسيقى الهادئة يتناهى من حين لآخر، وضحكات الريفية ونعيمة وسيدتها. خمنت أنهم يستعدون لاستقبال ضيوف اليوم، فرحتُ لوجود المرأة المكتنزة لأن المدير سيلحق بها لا محالة وسيكون في عداد المقتولين. ليس هو فحسب، بل والعجوز اللوطي أيضا؛ ها هي سيارة الـ 4 × 4 السوداء تقف أمام الباب، وبعد قليل ستصل شيماء والشقراء وربما صاحب السوبر ماركي والجار الشاب الخائن وآخرون ممن ستأتي بهم مفاجأة اليوم ليكتمل البهاء ويعم الفرح ويكون العرس كبيرا كبيرا...
عم البيت صمت مفاجئ، أغلقت النوافذ، وها هم يخرجون: الخنزيرة البدينة ممسكة بيد زوجها اللوطي العجوز، ونعيمة محاطة بالريفية وشيماء اللوطي، كلهم يرتدون نظارات شمسية وقبعات واقعية من الشمس وسراويل قصيرة وقمصان تعري الذراعين، ركب الجميع العربة، دخل السائق إلى المنزل، أخرج مظلتين واقيتين من الشمس وزربية وقفَّتين ثقيلتين حملهما بالكاد، أدار المحرك، اختفت السيارة. أووه! هم ذاهبون للاستجمام في شاطئ الرمال الذهبية بتمارة دون شك. حسنا! ها هم سيغيبون عن البيت ست ساعات على الأقل. عرضتْ عليَّ الخنزيرة المكتنزة مرارا أن نذهب إلى البحر، وفي كل مرة كانت تعيد علي مثل شريط غنائي برنامجَ الرحلة الذي يزاوج بين السباحة والتعرض للشمس واحتساء جعات باردة في حانة والعشاء مطعم شاطئي، بما يجعل ست إلى سبع ساعات تمرّ سريعة مثل نصف ساعة. هذا إذا كان وقت الذهاب بعد الغذاء، أما إذا كان صباحا فسينقلب الأمر إلى حكاية أخرى...
وضعتُ خطة جديدة طارئة؛ أخذتُ سيارة أجرة إلى الفندق، لبست بذلتي العصرية، اكتريت شاحنة، استأجرت خمسة حمالين أقوياء البنية، عدتُ إلى المنزل لأفوز بما فيه من نفيس أثاثي وحتى أثاث الريفية، ثمَّ أخرج من الباب الواسع كما يُقال.
واو! أحقا هذا منزلي؟! لم أصدق عيني، اختفى فراشي تماما وحل محله فراش وأثاث فاخر، يلزمني الادخار 5 سنوات أو ست لشراء كل ما أرى! والله إنهم لحمقى أو مجانين! أتراهم حسبوني من الأموات؟! تصرفوا كما لو أنهم ورثتي. هاي هاي! حبل من النبات تسلق جدران المدخل، زربية فاخرة بسطت في الممر الذي يفضي إلى الباب، زربية أخرى تركية بسطت وسط في ساحة المنزل، زرابي أخرى ووسادات أمازيغية زينت بشذرات متلألئة فوقها مثل حبات الفضة، مزهريات فاخرة، شمعدانات كبيرة عالية في قامتي، عربة خمور فضية، كؤوس من الكريستال والبلور الخالص، ثلاثة فوتويات من الطراز الرفيع، لوحات تشكيلية فنية من توقيع فنانين كبار. وغرفة النوم؟ توسطها سرير واسع من خشب الأرز، اعتلاه تمثال رأس أسد ضخم من البرونز كأنه خارج من الحائط، ونصب في زوايتيه السفليين جمجمتان من الرخام الخالص. واو! أما بيت الريفية ونعيمة، فصبغت جدرانه باللون الوردي الداكن، واعتلى سقفه شريط من المصابح متعددة الألوان... ونصبت فيه خزانة ملابس فاخرة امتلأت عن آخرها بأرفع أحذية النساء وملابسهن الداخلية، وتكدست فيه أجهزة إلكترونية موسيقية أبدته مثل استوديو دار الإذاعة، ثم ما هذا؟ ثلاثة أيور اصطناعية من المطاط؟!! ممممه!!! فهمتُ! صدقت العاهرة زوجتي. لما أخبرتني ظننتُ كلامها شططا أو ضربا من التقول الناتج عن السكر، ولكن ما قالت إلا صدقا والله. قالت:
- نعيمة تنيك النساء والرجال! مرة شاهدتها مع رجل بدت وهي تسير بجانبه مثل أكذوبة، رغم جمالها ووقارها؛ مجرد النظر فيه يولد الهيبة والخشوع، ولما سألتها قالت إنها تضاجعه...
- كيف؟!
- والله، بإحليل اصطناعي (انفجرت ضاحكة)
- ؟؟؟
- قالت لنا مرة: اصطادها رجل وسيم، ساقها إلى المنزل، فحسبت أنه سينام معها، لكنه اختفى في الحمام مدة، ثم خرج وقد صبغ وجهه بالماكياج، ووضع أحمر الشفتين، وارتدى ملابس زوجته الداخلية، ثم أعطاها إحليلا اصطناعيا، فلعبتْ دورَ الرجل فيما لعب دورَ المرأة، وفيما هما منهمكان في اللعب، إذا بالهاتف يرن: زوجته ستعود بعد بضع دقائق، على غير ما كان متوقعا. انتابه الهلع، أعطا نعمية 100 دولار، ثم تخلص منها بسرعة. لما وصلتُ إلى باب العمارة وجدتْ زوجته قد خرجت من سيارة أجرة صغيرة. كادت نعيمة أن تفجر ضحكا. قالت سرا:
- لو باغتتني مع زوجتك في المنزل لأقمت القيامة حاسبة أنه يخونك معي والحال أنه مجرد ولية لا حول لها ولا قوة إلا بالله، لو عرفتِ حقيقته لدعوتني الآن لمرافقتك إلى البيت، فتأكفل بكما معا...
أعدتُ الأيور الثلاثة إلى مكانها واحدا واحدا وأنا أقول، مثل طفل يخاطب لعبه: «هذا في إست العجوز زوج البقرة الهولندية، وهذا في إست شيماء وهذا في إست الشقراء». انتشلني صوت الشيالين:
- سيدي ! حملنا كل ما أمرتنا بنقله. الشاحنة جاهزة للإقلاع.
- حاضر، لحظة وألحق بكم.
جعلت من الأيور الثلاثة سندا للبندقية فوق مائدة، وبجانب هيكل البناية العجيبة وضعتُ زجاجة خمر احتسيت منها كأسين وورقة بيضاء رسمتُ فيها قلبا يخترقه سهمٌ، تاركا لهم أمر تفسير هذه الرموز الهيروغليفية بعد عودتهم من الشاطئ.
رست الشاحنة في سوق المستعملات بجوطية العكاري، فرشت زربية كبيرة وعرضتُ فيها الأثاث، رآها تجار السوق، سال لعابهم، عرضوا عليَّ بيعها جملة، أقاموا بينهم مزادا علينا خرجت منه بـ 000 2 دولار بمشقة في الوقت الذي كنت أنتظر الخروج بـ 5000 دولار على الأقل؛ أرادوا التحقق من هويتي خشية أن تكون البضاعة مسروقة، راوغتهم بصعوبة، دسست المال في حقيبتي، اتجهت إلى مقهى بالمدينة وحررت طلب انتقال من المدرسة دون تحديد وجهته، اتجهتُ إلى المدرسة.
شكلت زيارتي إرهابا حقيقيا للمدير؛ فهو منذ هددته بالعبث بإسته إن يحم حولي مجددا، صار لا يستقبلني إلا بحضور شهود، ارتبك، اصفر وجهه، صرخت فيه:
- اسمع يا هذا ! الرجال الأحرار تكفي معهم الإشارة، أما وقد حُمتَ حولي مجددا، فلك أن تختار بين اثنين: إما تنقل من هذه المؤسسة أو أنتقل منها!
- ولكن…
- انتهى الكلام بيننا. وقع هذا الطلب!
بيدين مرتجفتين، وقع الوثيقة وختمها. خرجتُ وأنا لا أكاد أصدق أن مخططي نجح أكثر مما توقعتُ له، طرتًُ إلى رب البيت، زعمتُ أنني دُعيت للالتحاق ببعثة التعليم المغربية في فرنسا، رشوته بأجر شهرين كراء، فسخنا عقدة الكراء بسرعة البرق:
- ستسلمك زوجتي مفاتيح المنزل في نهاية الشهر!، قلت له
ثم طرتُ إلى الحانة للحصول على قرار الانتقال إلى المدرسة الجديدة.
على امتداد الطريق إلى الحانة، راودني الإحساس بأنني تصرفت على نحو ما تتصرف به النساء لا الرجال؛ فما قمتُ به يشبه تماما ما يقوم به نوع من النساء للانتقام من الأزواج؛ تتظاهر إحداهن بطاعة الزوج والتصالح معه والصفح عنه، بعد طول لجاجات وخصومات تقودها إلى الرحيل إلى بيت أبويها غاضبة، ثم تتحين فرصة غياب الزوج من المنزل في سفر أو غيره، فتسوق شاحنة وتفرغ فيها كل ما في المنزل من آثاث وأفرشة، وتسوقها إلى بيت أبويها أو أحد أقاربها لترغم الزوج على الدخول في مفاوضات سوريالية ما لم تقطع الحبل السري لعلاقتهما قطعا أبديا، فترغم الزوج على انتظار أعوام أخرى كي ينبت ريشه ويكبر جناحاه ليتمكن من التحليق في سماء امرأة جديدة. وقد تفرجتُ على هذا النوع من المسرحيات، في طفولتي المبكرة، أيام ارتبط أبي سريا بعشيقة له وأوشك على الزواج بها. تحينتْ أمي غياب أبي لعقد صفقة تجارية، فساقت شاحنة وأفرغت كل ما في البيت، ولم يكفها ذلك، فساقت عاملين بنائين لاقتلاع الصندوق الحديدي الذي كان يخفي فيه والدي ما راكمه من أموال طائلة في تجارة العقار والغلات الفلاحية، وهو يقدر بمئات الملايين، إذ شاهدتُ بأم عيني أبي ذات يوم وهو يمسك بمقبضين حديديين عن يمين الصندوق وعن يساره، ثم يرفع رجله اليمنى ويدفع بكل ما أوتي بقوة إلى عمق الصندوق الأوراق النقدية المرصوصة مثل قطع أحجار... كاد أبي أن يُجنَّ، ساق جماعة من الرجال ذوي الجلابيب البيضاء، وذبح عجلا في عتبة منزل جدي من أمي، وقرئ الكثير من القرآن ورفعت الكثير من الدعوات لتليين قلب أمي التي لم تخرج للقاء الجماعة إلا عند مطلع الصباح، خرجت مثل عروس؛ اعتلى جبينها تاج ذهبي واصطفت في ذراعيها دمالج ذهبية ثقيلة وكست جسدها ملابس بيضاء فضفاضة فيما ازدان وجهها بماكياجات حمراء إلى أن بدا مثل زهرة، فما رآى أبي أمي حتى انكمش أمامها مثل قريد صغير وهو يستعطفها ويتوسل إليها، بل ويطلبها بكفيه كما يبسط المؤمنون أكف الدعاء إلى الله، أكثر من ذلك ذرف دموعا كثيرة، وكانت تلك هي المرة الأولى والأخيرة التي رأيت فيها أبي يبكي وهو الذي كنا نخاله لا يعرف البكاء أبدا لسلطته وجبروته في البيت.. ثم لم أذكر ما حصل بعد ذلك، ولا فهمتُ أبدا سرَّ تحول أبي منذ ذلك اليوم إلى شبه هرِّ منزلي أليف مطيع في يد أمي، تحركه بمشيئتها في أي اتجاه شاءت؛ فقد كان في وسعه، بعد أن استعاد الأفرشة والأموال، أن يطرد أمي من البيت أو يباغثها بعقد طلاق، ويلقي بها في الشارع، ولكنه لم يفعل أبدا... أكثر من ذلك، بعد خمس سنوات عن إطاحة أمي به توفي لأسباب غامضة عجز كل الأطباء عن تبينها فأخرى تفسيرها.. ألا لعنة الله على بعض النسـاء !
أأنا الذي خرجتُ من البيت أم إحدى النساء هي التي فعلت؟ من أخرجني؟ لن أعرف الجواب إلى الأبد. قد تكون الريفية، وقد تكون زوجتي، وقد تكون المرأة المكتنزة وقد يكن جميعا تواطأن ضدي وأجبرنني على قبول هذا الدور الصغير في مسرحية كبيرة لم – ولن – أعرف أبدا من كتبها ولماذا..
ها أنا على بعد خطوات من الحانة. لعنتُ نفسي كثيرا، واكتشفتُ أنني تصرفتُ بمنتهى البلادة عندما لم أقصد الحانة مباشرة بعد زيارة زوجتي إياي في المدرسة؛ لو فعلتُ لحصلتُ فورا على فتوى للتخلص الناجح من الوضع بدون أضرار تُذكر، بل ربما تطوع صديقان أو ثلاثة للعب دور الهيام بغرام الريفية والمرأة المكتنزة وشيماء اللوطي وصداقة العجوز، فيتسللوا إلى الجماعة مثلما يتسلل السرطان إلى الأجساد في الخفاء، فيتدبرون سبُل جمع أكبر عدد من عصابة اللوطيين والعاهرات في حفل أو سهرة سكرية كبرى مصطنعة، فيقيدون الجميع بالحبال والأغلال، فأخبر الشرطة، فتحضر وتلقي القبض عليهم جميعا وهم متلبسين بالجريمة. ففي الحانة نجد، نحن معشر السكارى، حلولا لجميع المشاكل؛ إن امتلأ جيبك بالمال إلى أن ضاق وأعوزتك سُبل إنفاقه اذهب إلى الحانة ويتبخر المال في بضع ساعات أو ليلة واحدة على أكبر تقدير، وإن كنتَ مفلسا وأعوزتك سبل الحصول على دين اذهب إلى الحانة تجد دائما من يقرضك؛ وإن لم تعد تطيق النظر في زوجتك وشئت الخلاص منها فاذهب إلى الحانة وستجد دائما من يفتي عليك خطة جهنمية لا يقوى عليها إلا عتاة الشياطين، وفوق هذا كله فالسكارى لا يخلفون الوعود؛ لم يسبق أبدا لسكير أن قدم لي وعدا دون أن يفي به، ولذلك فنحن نسمي الحانة بـ «دار الضمانة»، وهو الاسم الذي يطلقه الناس على الزوايا الدينية وبيوت حفدة أولياء الله الصالحين لما توفره لزوارها من حماية وملاذ آمنين..
شربتُ ثلاث جعات أو أربعة ثم وجهتُ رسالة إلى الجيلالي، واحد من هؤلاء السكيرين الذين يتوسطون عمليا في كل شيء ويحلون جميع المشاكل؛ سمسرة العقارات، كراء الشقق، الحصول على جوازات السفر، الحصول على عقد شغل في بلد أوروبي أو خليجي، التسلل بنجاح إلى الأراضي الإسبانية عبر الهجرة السرية، الترقية في الإدارة، الزواج، الطلاق، استعادة رخصة السياقة المحجوزة لدى الشرطة.... وكنتُ استفدتُ من خدمته الجليلة أيام سعيي لتطليق زوجتي الأولى بعد اعترافها بإيقاعها بي ليلة الزفاف عبر إجراء عملية جراحية لترميم بكارتها. الخدمة كانت جليلة والله لأن العاهرة أوقعت بقاضي الطلاق نفسه، وربما رافقته إلى حانات وأهدته زهرتها في ليالي حمراء، فقلب التهمة علي وحوَّل جلسات الطلاق إلى دروس في العبر والأخلاق أراد من خلالها أن يقنعني بأن أصير مصلحا اجتماعيا. صرختُ في وجهه:
- أتحسبني الشيخ محمد عبده؟! عاهرة كهذه توجد مئات الآلاف مثلها، وأنا لا يد لي في حكاية افتضاضها. أتحسبنني قمامة لتلقي بهذا الجسد القذر فيها؟؟ !
اتهمني بإهانته، ولفق لي تهمة «إهانة موظف» وهو يزاول مهامه، وهو ما كان سيقودني حتما إلى القضبان لولا الجيلالي الذي صنع كمينا مفخخا للزوجة النصابة، بمساعدة جماعة من أصدقائه في سلك الشرطة، فوقعت فيه في لمح البصر؛ ضبطناها جميعا سكرانة في غرفة فندق مشرعة فخذيها لعاشق مزعوم، فنالت شهرين سجنا نافذة جزاء عن «خيانتها الزوجية»، ثم وقعت على عقد الطلاق رغم أنف أبيها... ولم تكلف العملية في مجموعها أكثر من 1000 دولار، وكنت على استعداد لدفع ضعف المبلغ للخلاص من تلك المرأة التي لا تملك وجها للاستحياء..
أرسلتٌُ للجيلالي خمس زجاجات جعة، ما أن صفها الساقي بمائدته حتى فهم الرسالة؛ دعاني، حياني ثم تهيأ لخدمتي:
- مُر وأنفذ ! سمعا وطاعة !
- أريد أن أنتقل من المدرسة الفلانية بحي الفتح إلى إحدجى فرعيات بضواحي سلا تقع في طريق سيدي بوقنادل.
- (ضاحكا) هذه مشكلة بسيطة جدا، والله لننقلنك إلى المريخ يا أستاذ لو رغبت في ذلك، وفي رمشة عين، هات! انس هذا الموضوع..
-
ثم صفق بيديه، جاء الساقي، طلب جليسي أربع أطباق لحم مشوي ومثلهما سلاطة، وأربع زجاجات خمر أحمر من النوع الرفيع، غمغم في هاتفه النقال، وها هما بنتان جميلتان، مثل حمامتين، تلتحقان بالحانة وتنضمان إلى مائدتنا التي حرص صاحبنا على أن تكون في ركن معزول من الحانة يشبه صالونا صغيرا لا يدخله إلا الزبناء المتميزون من ذوي المال والجاه: قضاة، محامون، موظفون كبار في أسلاك الشرطة والدرك والجيش... والحق أنه رغم ترددي شبه اليومي على الحانة، أيام كنت في عنق زوجتي الأولى، لم يسبق لي أبدا أن جلستُ في هذا الصالون الذي يشبه مقصورات الحور العين التي لم أسمع بها سوى في القرآن. أغلق رب الحانة باب الدخول العمومي إلى الصالون، وأبقى علي باب سري يُفضي مباشرة إلى الفضاء الحميمي للخمارة: فضاء المطبخ ومخزن زجاجات النبيذ والخمر وبيت مال الخمارة. في غمرة السكر أقنعني تاجر الخدمات والوساطات بأنه يتعين علي أن أحمد الله وأشكره هو شخصيا لكوني جالس في هذا الصالون المبارك الذي لا يدخله العامة من السكيرين، وبأنني لو سددتُ ثمن ما في المائدة من خمور وطعام فسيكون ذلك من باب الإهانة الصريحة له وللبنتين، ولذلك يتعين علي التظاهر بأنني في ضيافتهم الشرفية، وهو ما فعلتُ: أخرجتُ حوالي ثلثي أو نصف ما كان في حقبتي من أوراق نقدية، ثم قعدتُ أتفرج على سبل إنفاق الوسيط إياها.