كثيرة هي المسلسلات التي لم تقل شيئا لغاية مطلع العشرية الثانية من رمضان، وكثيرة أيضا تلك المسلسلات التي يتربع أمامها المشاهد المسكين، يوميا، وبحب ولهفة متشوقا أن تقول شيئا يخصه فيخضه ويحرك دوائره، وبين هذا وذاك يضيع وقت المشاهد منتظرا اللاشيء، فتخذله خياراته وعمليات انتقائه، وهذا ذنبه بلا شك.
كثير من المسلسلات يظن صناعها أنها قالت شيئا، والحقيقة أنها لم تفصح عن جديد، ولم نر فيها سبقا دراميا تمنيناه دوما في هذا الفيض الرمضاني، فيما كان السبق في دولة كمصر لدراما الواقع دون جدال، عندما تسيدت قضيتا هشام طلعت مصطفى وسوزان تميم، وحادثة "حي الدويقة" على كل المسلسلات والأحاديث.
من المسلسلات التي لم تقل شيئا فيما المشاهد المكدود ينتظر متلهفا أن تكون ملهبة لخياله وحماسة ورجولته وثورته على واقعه!! هو المسلسل المنتظر طوال عام كامل، والمراقب منذ مطلع الشهر وهو "باب الحارة 3".
تدارك الأخطاء
كان كل ما يهمني في أمر "باب الحارة 3" أن يتجاوز سلبياته السابقة أمام الفرصة التي سنحت لذلك، وهي كثيرة بالمناسبة مع عدم التقليل من القيم الجيدة التي أعاد التذكير بها وحاول الانحياز لها؛ ما دمنا نقر ونؤمن أن أي عمل فني لن يصل مرتبة الكمال مهما حاول واجتهد صناعه والمشاركون فيه، كما أنه لن يرضي الأذواق جميعها وإن حاول ذلك فسيفشل لا محالة، وبالتالي كان التمني أن يكون قد عمل القائمين عليه على تقبل بعض الانتقادات التي أثيرت حوله، وكان الهدف منها التصويب والتجويد وصولا لما نستحق كمشاهدين، وتحديدا في ظل كم الجدل الذي أثير حول العمل والأفكار التي قام عليها.
كان الظن، أنه في حال لم يتحقق ذلك، وهو أضعف الإيمان في مسلسل حصد قاعدة جماهيرية عريضة، فإن المسلسل وجمهوره هما الخاسران، وهو ما يبدو أمرا تحقق في لحظتنا هذه، بدلالة حالة التذمر التي يستشفها المتابع من جمهور المتحفزين.
والأمر الثاني مبعثه أنه لا يمكننا التعاطي مع أي عمل فني دون النظر إلى اللحظة التي يحضر فيها ودون الالتفات إلى طريقة تلقيه، فـ"باب الحارة" بمقدار ما قدم قيم الشهامة والشجاعة وقيم الخير، والتعاون عمل على تكريس نظرة ماضوية عامة، حتى لو اختبأت خلف الواقع الدمشقي غير البعيد الذي حفز حنينا لم يفارقنا لحظة، وحتى لو تذرع صناعه أنهم ينقلون الواقع كما هو، وهذا كلام يعتبر عبئا على أصحابه، فالعمل الفني بمقدار ما يعرض الواقع فإنه يعرضه ضمن رؤية ما وتصور مسبق عن هذا الواقع وهو ما يجعله يفارق الواقع الماضي ويمنح دفعة ما للواقع الحالي.
المسلسل توغل في القلوب في فترة صعبة يعيشها الجمهور، فترة مليئة ببغض اللحظة الحالية التي يعيشونها وعدم رؤيتهم لمستقبل أجمل وأفضل، وهو ما سيقود، شعوريا ولا شعوريا، إلى تكريس حنين طاغ إلى الماضي/ الزمن الجميل!! في لحظة نحن بحاجة للنظر للمستقبل والعمل عليه دون أن نغفل الماضي أو التاريخ والذي نحن جزء منه شئنا أم أبينا.
رد اعتبار
كُثر أيضا تعاملوا مؤخرا مع مسلسل "باب الحارة 3" على أنه العمل الذي سيرد الاعتبار للمسلسلات العربية بعد أن استشرت مشاهدة المسلسلات التركية بين المشاهدين العرب، وهو أمر يستبطن في داخله أن المسلسلات التركية التي عرضت في الشهور الأربعة الماضية سفكت كرامة المسلسلات العربية، وهذا افتراض غير صحيح مطلقا، ربما المسلسلات التركية كشفت ضعف بعض الأعمال الفنية الدرامية وعرتها (وتحديدا كثير من المصرية والخليجية وقليل من السورية) سواء فنيا أو على مستوى المضمون وطرق المعالجة وطرق خلق الدراما.
لكن المسلسلات الجيدة تبقى جيدة، وهنا تحديدًا أقصد عشرات الأعمال الفنية السورية التي لا يمكن لأي دراما أن تقصيها أو تهمش دورها، وكذلك حب المشاهدين لها، إضافة إلى أن ما أقصده بالمسلسلات السورية يتفوق على التركية كثيرًا بالنسبة للمشاهد الواعي والذي ينتقي بدوره في ضوء ما يعرض عليه من أعمال فنية، وهو لغاية الآن لا يعتبر "باب الحارة 3" من تلك الأعمال التي أقصدها في هذا المقام.
ما يهمنا هنا في باب الحارة أنه منذ البداية كان أمام تحدٍّّ حقيقي، مصدره ضغط الجماهير المنتظرة للعمل، وهذا سيف ذو حدين، فهو قد يفيد المسلسل من حيث توفر حملة مجانية للدعاية له.
لكن الخطر الحقيقي يكمن في الحد الثاني للسيف البتار، وتحديدا إذا ما اتضح أنه بعكس توقعات الجماهير المنتظرة، عندها يكون كمن لم يستثمر نجاحا سابقا لخلق نجاح لاحقا.
في ظل أن توقعات الجماهير كثيرة ويصعب حصرها أو التحدث عنها ومن يتابع حالة التلقي للجماهير للمسلسل سيدرك ذلك في بداية تململ من حالة التكرار والمط التي تعاطي معها العمل خلال الـ12 حلقة الأولى من عمره، وهو ما لا يمكن لأحد أن يخطئه.
ثانيا: فكرة العمل للجماهير أيضا خطيرة جدا، فالرغبة بخروج المسلسل بغض النظر عن مقتضيات الضرورة الفنية وطبيعة المعالجة والرؤية مبعثه ضعف مخرج وكاتب سيناريو وتغول منتج لا يهتم بمقاييس الإبداع بمقدار المقاييس التي تكفل له ملء خزانته من الأموال قبل العرض.
العمل تحت ضغط الجماهير والرغبة في تحقيق توقعاتها تصادر كثيرا من رؤى المخرج والكاتب، ومن أداء الممثلين أيضا، وتصرف كثيرا من الجهود عن إتقان العمل وطرح أفكار ورؤى جديدة، ومختلفة ربما نكون بحاجة إليها، فالجماهير قد تقزم عمل ما إذا حسب حسابها بشكل كبير وسافر، فهي "تغتصب" العمل الفني بشكل رمزي وتصادر رؤى جديدة قد تحقق سبقا دراميا لو وفرت لها حرية مطلوبة.
تكرار واجترار
يعاب على المسلسل أن الباب لم ينفتح بل تقوقع، فظهر الاحتلال الفرنسي قشريا، وبالتالي كان طبيعيا أن تكون الحلقات العشرة الأولى مكرسة لملء الفراغ والتطويل والثرثرة والحبكات الفرعية الصغيرة جدا التي لم تحرك إلا أقل القليل من نسيجه الدرامي، فتكررت ذات العناوين العريضة السابقة، والمؤامرات الصغيرة كانت هي المحرك الضعيف لحلقاته، وهي لم تقدر على خلق انعطافات قوية تشد المشاهد الذي يلاحظ تعطشه للدراما/ الصراع باختلاف تكويناتها، وتحديدا ما يمكن أن نطلق عليه "عدوى الأكشن" برغم أن المخرج حاول الاستفادة كثيرا من توظيف حركة الكاميرا لخلق حالة من الدراما البديلة، كما أن القناة العارضة اجتهدت في عرض مقاطع من المسلسل مليئة بالصراع والعراك والحراك، ولكن عبثا.
لغاية الآن، أي ما فُتح من الباب، لم يمنح المشاهد ما يريد، فلم نر شخصيات جديدة في حارة هي مغلقة أصلا، ولا معالجات عميقة في ظل حركة بطيئة ومملة على مستوى الأحداث وتطورها، بدا أن المعادلة كانت جاهزة ولا تتطلب مزيدا من جهد بالاعتماد على الجزأين السابقين وعلى جماهير تتحفز للمشاهدة.
تغيير الشخصيات أيضا أحدث رجة في فعل المشاهدة وهو دليل على عدم وعي المشاهد ورغبته الكبرى في استحضار العمل السابق، وهو ذلك الاستحضار الذي كلما حاول القائمون على العمل المقاربة منه، كان مقدار الفشل، كما لم يقدم لغاية الآن حالة ما من التأريخ ضمن إطار أوسع مما هو عليه، وربما مبعث ذلك أسباب إنتاجية بحتة.
ومع كل ذلك أتوقع حضورا جماهيريا لـ"باب الحارة 3" ليس لتوافر عناصر قوة فيه، وهذا لم نستشرفه من بداياته، إنما لأنه يستمر في مغازلة الجمهور وتقديم ما يعتقد أنه يحتاجه، وهذه وصفة لم تعد سرية لكنها تضمن النجاح الحتمي من جانب، ولوجود مكابرة (تكبر وتصغر) من مشاهدنا العزيز تقود أحيانا إلى عدم اعترافه بأن رهانه خاب، في ظل تعبئة عامة تجاه العمل.
النجاح في الفن له مقاييسه، ربما تختلف عن الحسبة الجماهيرية والتي لا أقلل من قيمتها، لكن العمل الفني الجيد له شروط تضمن نجاحه ولو بعد حين، أتمنى رؤية جزء منها فيما تبقى من حلقات الباب الذي سيغلق، فيما بعد، فالعمل الجيد هو الذي يطرح على الجمهور أسئلة أكثر مما يقدم إجابات، أسئلة ترتبط باللحظة الحالية، وهذا أضعف الإيمان. سعيد أبو معلا ناقد فني ومحرر في النطاق الثقافي والفني في شبكة إسلام اون لاين.