وتضع المفاتيح في يدها و تقرأ والدتي كل ما تحفظه من سور قرآنية بكثير من الأخطاء - كل ماتحفظه المعوذتين والفاتحة - وتهدأ خديجة رويدا رويدا. تأتيها أمينة بكأس ماء مذاب فيه قطعة سكر . يتعاون الجميع على حملها فوق السرير . نتركها لتنام . يبتلع شقيقي لسانه و ينصرف كما سبق لي وابتلعت لساني و صمتت .
فجأة ودون سابق انذار ماتت امي .هكذا فجأة . كان كل شيء هادئا في ذلك الصباح الخريفي في ذلك اليوم رحلت والدتي حاملة معها أحزانها و همومها وانزوت بعيدا بسنواتها الخمسين .
كانت تحس آلاما في قلبها , حملتها شقيقتي الى الطبيب و بعد ذلك بساعات سمعت صرخة : أمي ماتت , أمي ماتت .
قبل و فاتها بأسبوع , أمسكت يدي و هي مسجاة على ظهرها و قالت لي :
- سامحيني يا ابنتي .
أحسست بالمرارة في حلقي . ابتلعت ريقي و قلت لها
- على ماذا أسامحك ؟ أنا من يطلب عفوك ورضاك .
كانت تبكي . عاودت امساك يدي :
- سامحيني على كل ما فعلته لك في الطفولة , أنا أمية لا أفهم في أصول التربية . خديجة كانت تسيرني , كنت أصدق كل ما كانت تقول . فهمت متأخرة كل أكاذيبها لكن الأوان فات . والدك ألغى شخصيتي واختك ألغت علقلي . كنت كالآلة أفعل ما يأمراني به . ظلمتك يا طفلتي , ظلمتك .
أنتحب . أبكي بصوت مسموع . ليتك فعلت هذا قبل الآن بكثير لكنت جنبتني آلآما نفسية كثيرة . لم أكرهك أبدا.. أبدا أمي بل لم أفكر في عتابك , كنت أفهم كل شيء . فهمت كل شيء مبكرا . كنت أعلم أنه لا حول ولا قوة لك . كنت طفلة لا تعرفين من أمور الدنيا الا ما تحكيه خديجة من أحاديث ملفقة
أحبك أمي .
حملوها واستقبلوها القبلة , نزعوا عنها جلبابها و غطوا وجهها بازار أبيض . كنت ألمس يدها , أجس نبضها , حبل الوريد في عنقها لعله ينبض . كيف تموت ؟ بكيت بحرقة . نزفت الدماء من أنفي , أغمي علي , أخذوني الى المستشفى و عندما عدت كانوا قد أخذوها الى متواها الأخير .
ذهبت أمي دون وداع , دون أن تضميني اليك , أشتاق اليك , أتمنى لوادفن رأسي بين ثنايا عنقك واستنشق عطرك الرائع مازلت أراك أمامي تعجنين الخبز الأسمر و تطبخين الطعام , أراك في الغرفة الكبرى تسبحين و تصلين , حتى في أحلامي أراك .. أبثك أشواقي , نتعانق , أستفيق.. أراك وقد خنقتي الدموع , أندم لأني استفقت واخاف أن أنام ثانية .. فأراك في حلمي وانهض لأجد الفراغ .
أمي أما زلت تذكريني أم نسيت كل شيء ؟ أما زلت تذكرين عندما كنت أضع رأسي على ركبتيك و تعبثين بخصلات شعري وانت ساهمة في البعيد . تفكرين بالحج أوالعمرة . كم ذقت المر بسببنا ؟ كم ضربت و كم أهنت و كم و كم . كنت تصبرين و تقولين من أجل أولادي كل شيء يهون . هل كتب على أن أجتر السنوات أبكيك ؟ هل كتب علي أن أن أعيش ما تبقى من عمري البائس معذبة بفراقك ؟ أطلب لك الرحمة يا أمي .
عندما ماتت أمي , تنهد أبي كأنه تلخص من حمار أجرب . ربت على شعري , أحسست بأصابعه كمسامير مدببة الرأس , لم يمر الشهران حت أخذ أولاد الحلال يسدون له النصيحة :
- يجب أن تتزوج , اياك والعواجيز انهن يورثن الأمراض و يسرعن بك نحو القبر , تزوج شابة تدفىء عظامك و تناولك الدواء عندما تمرض .
لم يكن أبي في حاجة لنصيحة أحد . تزوج امرأة قروية شابة , كل شيء فيها يوحي بأنها امرأة من النوع الرخيص : عيناها اللتان لا تهدءان من الغمز واللمز, العلك الذي لا يفارق فمها. كرهتها حتى قبل أن أراها. مذ تزوجها و هو يسافر كثيرا : الى الحج أوالى الجنوب , تودعه بدموع نجسة كبول الخنازير وعندما ترجع الى البيت تتحدث طويلا في الهاتف تطلق ضحكات رقيعة , تتزين و تخرج ثانية.
كانت تتغيب طويلا . عندما تعود تكون مسهدة و في عينيها احمرار . كل شيء يوحي بأنها انتهت من معركة حامية الوطيس على سرير أحدهم . ما ذا سيفعل والدي اذا علم أن زوجته تخونه مع ألف رجل و رجل ؟ سيموت حتما . فليمت . ألم يخن والدتي حية و مية ؟
جاءت زوجة أبي صعقت عندما رأتني أدخن :
- هل جننت؟
أجبتها ببرودة :
- لماذا ؟ هل رأيتني قد نزعت الثياب عن مؤخرتي وارمي الناس بالحجارة ؟
- وتدخينك علانية , أليس جنونا ؟
- اذا كان تدخيني جنونا فماذا تسمين تصرفاتك هذه ؟
بدت للحظة كتمثال شمع ثم أردفت كأنها لاتسمعني :
- بنات العائلات لا يفعلن هذا .
- معك حق بنات العائلات المحترمة لا يفعلن هذا, لكني لا أعيش بين عائلة محترمة , أنا أعيش مع قوادة فقط . والا مامعنى أن تتزيني كل يوم و تعودي ليلا مسهدة ؟ هل تظنيني غبية ؟
ضربت المائدة بقبضة يدها وقالت :
- هل تظنيني ملاكا ؟ والدك يسافر طوال العام اما في سيدي حرازم لمعالجة الكلاوي أوارفود لعلاج الروماتيزم أو في الحج أوالعمرة لغسل ذنوبه ويتركني وحدي . ألست امرأة و لدي أحاسيس ؟
أجبتها بسخرية :
- رائع انك تحسين كباقي البشر .
لم تلتفت لسخريتي و قالت :
- هل تظنين والدك ملاكا ؟
- يكفي أنه تزوجك لينظم لزمرة الشياطين .
- انك صغيرة لا تفهمين . والدك كل ليلة مع امرأة , هذه شقراء والأخرى سمراء واخرى لا أدري كيف هي . يجري وراء " الشيخات " , يعيش و كأنه هارون رشيد عصره , يتركني وحيدة و ينتظر مني أن أظل وفية له .
كنت أعرف أنها محقة. دخلت غرفتي , أقفلت علي الباب. عاودت فتحه , وجدتها لاتزال مسمرة سألتها:
- ماالذي أجبرك على الزواج من أبي وهو جاوز الستين , مريض بالكلي والروماتيزم والسكر و..
- تزوجت والدك لأنه كان يجب أن أتزوج . أنا لم أختره . قلت لأهلي : لا أريده . قالوا : بلغت الثلاثين , أصبحت عانسا لا بد أن تتزوجيه . قلت لهم : أريد شخصا آخر , قالو : تزوجي و حبي من شئت . تزوجته قلت لأمي : زوجي دائم السفر, قالت : هذا لحسن حظك فماذا تفعلين برجل يظل بجانبك العمر كله يخنق أنفاسك .
نزلت دموعها . دموع صادقة . انهاضحية مظلومة هي الأخرى .
أخيرا حصلت على شهادة البكالوريا . لم يهتم أحد للأمر . عندما علم أبي بالخبر لوى شفتيه امتعاضا ثم قال :
- بكالوريا آداب ؟ الآداب ما يوكل حتى خبز حافي .
انه مصر اصرارا عجيبا على التنغيص علي والتنقيص من شأني . قلت بتأفف :
- لا آداب ولا علوم يوكلوا الخبز هاذ الزمن .
ارتشف شايه واغمض عينيه كأنه يفكر في أمر جلل ثم قال :
- يكفي من وجع الراس , افتحي محلا لبيع الأحدية .
أحسست برغبة في تحطيم أي شيء . لماذا لا يصمت ؟
- سأصبح صحفية . سأذهب لأخذ المعلومات من مدينة الرباط . لم أكمل عبارتي حتى صرخ كمن لدغته أفعى :
- ماذا ؟ الرباط ؟ هل جننت ؟ أنا ابنتي تدرس في مدينة أخرى ؟ ولوحدها ؟
- الرباط لا تبعد عن البيضاء الا بساعة زمنية واحدة . قاطعني بعنف :
- الوقت خايبة. أنا أدرى بما يحدث . اني أسافر وارى العجب .
- هناك بنات في مثل سني واصغر يسافرن للدراسة خارج أرض الوطن بموافقة أهاليهم .
- هؤلاء زنديقات واهاليهن زناديق . الفتاة يلزمها دائما رجلا لحراستها و حمايتها .
- حمايتها من ماذا ؟ هل تظنني في حاجة للسفر لآخر الدنيا للعيش على سجيتي ؟ يمكنني أن أمارس كل الأعمال الجهنمية بقربك وانت لاتدري .
اصفر وجهه , نظر الي نظرة غريبة ثم قال :
- ماذا تقصدين ؟
- لا أقصد شيئا . كل ما في الأمر أنني لا أريد أن أكون تحت وصاية أحد . متى ستظل المرأة على هذا الحال ؟ تولد تكون تحت وصاية أبيها وأخيها , تتزوج فتصبح تحت وصاية زوجها واهله و عند وفاته تصبح تحت وصاية الأبناء . متى تملك المرأة زما م نفسها و تكون حرة ؟
- اسمعي كلام الجرائد هذا لا يمزمني . قوليه هناك في المدرسة أو الجامعة . لكن في بيتي أنا من يقرر وانا من يحكم . لا سفر معناه لا سفر.
رمى الفوطة بعنف وخرج . تركني ونيران متأججة في داخلي . كيف أستطيع اقناعه ؟ كيف السبيل لتحطيم هذا الجليد بيني و بينه ؟ شيء فظيع أن يرى الانسان أحلامه التي عاش سنوات عمره لأجلها تتحطم فجأة بسبب معتقدات بال عليها الزمن وافكار متعفنة . لقد تحطمت أشياء كثيرة بداخلي , لا الا هذا الحلم .
خرجت من البيت أمشي عن غير قصد . التقيت رجلا بلا ملامح قال لي :
- تذهبين معي ؟ بيتي قريب جدا من هنا .
لم أفكر ركبت سيارة , ذهبت معه , وفي بيته نزع ملابسي لم أغضب لم أهتم كأن الأمر لا يعنيني . حتى جسدي أحسسته منفصلا عني و كل ما يحدث لا يعدو كونه فيلم من الأفلام الجنسية الرخيصة . فجأة تذكرت " قدور القدر " . نظرت حولي : ماذا أفعل هنا ؟ كنت مستلقية على ظهري و رجل ما يركبني . شعرت بالاشمئزاز , بالاختناق . أبعدته عني بكل قوة , تأوه , لبست ملابسي . سمعته يقول :
- كنا مزيانين ياك لباس ؟ آجي غادي نزيدك عشرين درهم .
ماذا سيفعل والدي اذا علم بالأمر؟ سيرغي و يزبد وزوجته تهدئه و ستقول له كخطيب يوم الجمعة :
- انها مراهقة و صغيرة و قد أخطأت .
و سأجيبها :
- حتى أنت يا زوجة أبي أخطأت . أنا ذهبت مع رجل واحد لكن أنت ذهبت مع عشرات الرجال و حتى أبي خانك مع كل النساء . فلماذا تحاسبوني ؟ على الأقل أنا لم أخن أحد .
سيصبح وجه زوجة أبي اصفر لأني فضحتها. لكن أبي لن يصفر وجهه لأن خيانة الرجل ليست كخيانة المرأة . فعندما يخون الرجل زوجته يجدون له ألف عذر و يقولون انه رجل و يمارس رجولته و يشيرون بأصابع الاتهام لزوجته لأنها لم تحسن الحفاظ عليه . ونفس الرجال الذين نصحوه بالزواج منها سيقولون له طلقها أو علقها من ثدييها في ميدان عام وارجمها بالحجارة . و سيرجمها الناس بالحجارة كأنها المذنبة الوحيدة في هذا العالم . وستموت وازغرد أنا فرحا .
دخلت البيت , قالت زوجة أبي و هي تشمني :
- في جسدك رائحة الخمر والرجال .
وبسخرية قلت :
- رائع. بت تعرفين رائحة كل الرجال . أتعرفين ؟ كان الأجدر بك أن تعملي في سلك الشرطة , ليس شرطية طبعا بل كلبة لأنك تحسنين الشم .
- ماذا لو علم والدك ؟
- اخبريه . لكن لا تنسي أن تخبريه عما تفعليه في غيابه .
صفقت الباب ورائي و دخلت غرفتي .
لماذا فعلت هذا ؟ هل كنت أريد أن أبرهن لأبي أنني لست في حاجة أن أسافر الى آخر الدنيا لكي أفعل ما أريد ؟ !!
أصبحت لي صديقة واحدة أحبها جدا . نخرج سويا , نتسكع , نمارس جنوننا بحرية . كيف التقيتها ؟ هي لا تدرس معي .التقيتها صدفة في الحافلة. كانت تبحث عن حافظة نقودها لتدفع ثمن التذكرة . بدت حائرة و خجلة. أدركت أنها لا تحمل نقودا ربما نستها . فتحت حقيبتي أشفقت عليها , أنقدت الموقف . شكرتني واصرت أن أرافقها الى البيت . كانت شقراء جميلة , قصيرة القامة و ترتدي حذاء بكعب عال جدا . كانت في مثل عمري . تسكن لوحدها في شقة صغيرة بعد أن ماتت والدتها .
والدها لم تره أبدا . وشقيقها " حرك للطليان ". الشقة مكونة من غرفة كبيرة بها سرير واحد و كرسي و مطبخ أ ما المرحاض فهو مشترك مع الجيران . ظننتها طالبة لكن فوجئت عندما قالت بكل بساطة :
- أنا خدامة في بار كانت والدتي تعمل به , عندما ماتت أخذت مكانها .
استأذنت بضع دقائق عادت تحمل طفلة في حوالي الرابعة من عمرها لا تشبهها أبدا . قالت لي ك
- ابنتي دعاء .
قبلتها
- لاتشبهك هل تشبه والدها ؟
- لا أدري , ربما .
صعقت , كيف لا تدري ؟ لاحظت دهشتي , ضحكت ضحكة بلا معنى وقالت :
- أنا لا أعرف والدي و هي كذلك لا تعرف والدها . انها ابنة " الحرام " .
كانت تتكلم بعفوية وصراحة شديدتين , لا تخجل من شيء . تقول كل ما تريد ومتى تريد لا يهمها أحد . حسدتها على شجاعتها . نظرت الى الطفلة قلت لوالدتها :
- تبدو نحيفة جدا هل هي مريضة ؟
- لا أدري , ربما العجوز التي أتركها عندها لا تطعمها جيدا مع أنني أدفع لها كل ما تطلبه , لكن يبدو انها تسرقني . لا يوجد ضمير . أتعرفين ؟ لقد كنت أتركها من قبل عند جارة أخرى تسكن في الشقة المواجهة لكن اكتشفت أنها تعطيها الخمر في " الرضاعة " حتى تكف عن الصراخ , لم أنتبه في البداية بل لم أنتبه لأي شيء أبدا فأنا أكون متعبة دائما , " أولاد الحلال " هم من أخبروني .