ندخل الى الغرفة. والدتي امينة و كوثر و خديجة وأنا. أرى تساؤلات في عيني والدتي . تقول لها خديجة بجدية :
- ذهبنا عند اليهودي , الزحام كثيف و تصوري , هناك رجال نساء و نساء أتوا من مصر و حتى الهند. شواف عفريت . عندما حان دوري قال لي أشياء غريبة كأنه يعيش معنا سبحان الله.
و تظهر اللهفة على وجه أمي:
- ماذا قال؟
- عرف لماذا أتيت دون أن يسألني . كل شيء يظهر في السبحة. قال لي أن أبي رجل متغطرس وجبار, لكن ماشي الخاطرو . هناك امرأة بيضاء سمينة , لديها علامة في يدها هي من تسحر له , فهي تغار من أمك . تنظر الي:
- أليس كذلك؟
أنظر اليها بغباء و دهشة :
- آ..نعم..ايه
تفكر والدتي قليلا ثم تصرخ:
- عرفتها. خالتكم , أختي من دمي و لحمي . عندها علامة في يدها أصبعها السبابة معقوف و هي بيضاء و سمينة.
و تقول خديجة :
- أنا كذلك فكرت فيها. ألم تري كيف تغير لونها عندما علمت أن أبي اشترى لك قفطانا ؟ تبكي والدتي بحرقة :
- الله يابنت بويا واش بغيتي عندي ؟
وتقول أمينة :
- لقد حذرناك منها كثيرا .
و تمدها خديجة بالورقة البيضاء / الحجاب :
- خذي هذا الحجاب , أطبخيه مع الشاي واسقيه لأبي .
تحتار أمي :
- لكن والدكم لا يأكل أكلنا.
تتشجع أمينة و تقول :
- سأصنع له الشاي واعطيه له. فهو يحب الشاي جدا وسيضعف أمامه.
تتنهد أمي :
- على مولانا.
تأتي خالتي كالمعتاد . لكن أمي تسلم عليها ببرود وتكلمها ببرود . لا تأتيها بالشاي والحلوى كما المعتاد . تتركها تتكلم وحدها. تجيبها أمي بين الفينة والأخرى بكلمات مقتضبة. تترك الغرفة , و تذهب الى المطبخ تتظاهر بالانشغال لشيء ما. تحس خالتي بشيء ما غير طبيعي و تنصرف غاضبة . نجحت خديجة في افساد علاقتهما.
كنت في السابعة حين اصبت بمرض " روماتيزم المفاصل " . كنت عادية ذلك اليوم , استيقظت كما المعتاد . تناولت فطوري كما المعتاد . لكن حينما كنت أكتب الدرس على دفتري , أحسست بألم في يدي , سقط القلم من أصابعي . عاودت امساكه . سقط . حاولت التقاطه , عجزت . ياالهي ماذا يحدث ؟ آلآم حادة في يدي و رجلي . حاولت النهوض , أو تحريك قدمي , فشلت . نادتني المعلمة :
- ماذا بك؟ تعالي
كنت أنظر اليها وأبكي . لم تفهم المعلمة كما لم أفهم شيئا.
صرخت في وجهي :
- تعالي ألا تسمعين ؟
كلهم يصرخون . أبي , أمي , " قدور القذر" , المعلمة . لماذا لا يتكلمون بلطف ؟
من خلال دموعي نطقت :
- لا أستطيع. أحس بآلآم في رجلي و يدي.
بهتت المعلمة . أتت الي . حاولت مساعدتي على الوقوف . فشلت .
خرجت و عادت معها المديرة وباقي المعلمين والمعلمات :
- حاولي النهوض . حركي رجليك .
- لاأستطيع
- حاولي .
آلآم , آلآم .
يربتون على شعري , على كتفي , يتكلمون في نفس الوقت , تختلط الآصوات :
- والد جاري حدث له نفس الشيء . انه الشلل .
- لا . انها حالة عصبية ستختفي بنفس السرعة التي ظهرت بها .
- لا . يجب أن يأخذها أهلها الى فقيه . يمكن " المسلمين " و تلتفت الي المديرة :
- هل أفرغت الماء الساخن في المرحاض بالأمس أو هذا الصباح ؟
- لا..لا
- هل صدمتك سيارة أو دراجة ؟
(ماهذه الأسئلة البليدة ) ؟
- لا..لا..
يتركونني . بعدها يأتي أبي يحاول تحريك قدمي ويدي . لاأستطيع . يحملني بين ذراعيه , لاأحس بالأمان بل بالخوف . واتمنى أن أفر منه . و من طبيب لآخر , تحاليل صور أشعة والنتيجة : روماتيم في المفاصل . قالوا أن السبب هما اللوزتان . لم يفهم أي احد ما علاقة اللوزتين بقدمي ويدي . حقن , حقن . أصبحت مؤخرتي مليئة بثقوب زرقاء عديدة كأنها مصفاة . احساس غريب أحسسته وأنا مريضة . أحببت هذا المرض لقد جعلهم يلتفون جميعا حولي , يضموني اليهم , يشترون لي أشياء جميلة . تعدني أمي أن تاخذني للبحر لأدفء عظامي , و زيارة ضريح " سيدي محمد " , نأخذ له الشموع و نذبح له ديكا . و خديجة كذلك تعدني بالذهاب الى السينما ان أنا وقفت على قدمي . امينة كانت تقرأ لي حكايات ألف ليلة و ليلة . يأتي أناس كثيرون يزوروني و يدعون الله لأجلي .
لكن في ذلك اليوم عندما كنت نائمة , أحسست بشيء ثقيل جاثم على صدري . حاولت ازالته بيدين واهنتين . استفقت وجدت " قدور القذر" فوق جسمي, شفتاه الكريهتان تطبقان على فمي و..لم يكن أحد بالبيت . ربما كانت والدتي في المطبخ . بكيت . هذه المرة حاولت الصراخ لكنه أطبق بيسراه لى فمي و بيمناه صفعني . كانت عيناه تلمعان بشيء غريب : الكره ؟ الحقد ؟ لا أدري . كم أتمنى لواستطيع أن أحمل سكينا واغرزه في صدره وأفتحه لأرى ان كان يحمل قلبا مثل باقي البشر , يحس , يتألم , مستحيل أن يكون له قلب . شفيت لا أدري كم مضى من الزمن , شهر؟ سنة ؟ ربما استغرق العذاب عمري كله , كان هذا المرض يأتي حتى أظنني لن أتخلص منه أبدا و يختفي حتى أكاد أنساه .
- الحمد لله , الله هادينا للطريق المستقيم . هذه الجملة سمعتها مرارا من شقيقتي خديجة . تتكلم عن الأخلاق والشرف والعفة الى آخر هذه الحكايات التي تبعث على النوم وقوفا . أمي طيبة تصدق هذا الكلام وتردد هي الأخرى : الحمد لله أولادي مهديين مرضيين ما فيهم حتى بلية .
لكن أنا لم أكن بلهاء , كل شيء مخزن في هذه الجمجمة . كنت اصمت لأنه لا أحد يصدقني . أرى واصمت . علموني أن أبتلع لساني وأصمت . مرة وتلتها بعد ذلك مرات حاولت خديجة أن تتملص مني بشتى الوسائل , لكن والدتي كانت لها بالمرصاد :
- ترافقك اختك أو لن تخرجي .
- أنا لا أفهم معني اصرارك. لماذا لا أخرج وحدي؟
- اعطني سببا واحدا يجعلك ترفضين مرافقة أختك.
- سأذهب عند صديقتي من " الأخوات المسلمات " سنناقش بعض أمور الدين , فكل يوم جمعة يعقدن مثل هذه الجلسات .
- هذا سبب أكبر يجعلني أصر على أخذ أختك معك . عسى الله يهديها و تصلي .
تستسلم شقيقتي على مضض , تنظر الي شزرا , تمسكني من يدي بعصبية و تسوقني كالدواب . نمشي , نمشي . حرب حامية الوطيس مشتعلة بداخلها . ياالهي , ماذا بها ؟ و صلنا الى حديقة الألعاب , ادخلت يدها بين نهديها واخرجت بعض النقود .
- خذي هذه النقود , العبي كما تشائين , اشتري ما تشتهين .
ترددت . كنت أجيل النظر بين اليد الممدودة بالنقود والوجه الغاضب . أخذت النقود .
- ستدخلين وحدك وعندما تنتهين من اللعب , أخرجي وقفي بجانب " العوينة " . هل تسمعين ؟ الساعة السادسة بالدقيقة أجدك هنا , كرري ما قلته .
- وانت أين ستذهبين ؟
تلعثمت , احمر وجهها . (عجبا ان وجهها يحمر)
- لن أكرر ما قلته لوالدتي .
- ووالدتي قالت أرافقك لا أن تتركيني و تذهبين .
- اسمعي , غدا أشتري لك سروال " الجينز "
(انها تساومني يجب أن أستغل الموقف)
- سروال جينز و حذاء رياضي .
ابتلعت غضبها
- حسنا لكن ابتلعي لسانك .
و قبل أن تتركني قلت لها :
- اذا لم تشتري لي سروال الجينز والحذاء الرياضي , سأخبر والدتي كل شيء , ابتداء من السينما .