حاولت مرارا أن أبدأ. كنت أحمل قلمي ..أوراقي البيضاء ، منزوية في ركن الغرفة. أمرر القلم على ورقتي بطريقة عشوائية .. مسرِّحةً أفكاري بعيدا، في ذلك الماضي البعيد.
عندما أستفيق من شرودي أجدني قد رسمت ندوبا .. وخطوطا كتلك التي أحملها في ذاكرتي
لماذا أنبش الماضي ؟!
لماذا أنكأ الجراح ؟
لكي أرتاح .. و لن أرتاح إلا اذا تقيأت على وجوههم كلَّ ما ظل حبيسا في جوفي طوال هذه السنين. لا داعي أن أنشر الغسيل الوسخ على الملأ ؟ بل سأنشره ؛ نعم .. نعم / وسيراه الجميع دون ابطاء .
لم يعد يهمني أحد. طز في الجميع أقولها بأعلى صوتي.
آه يا ذاكرتي .. يا ابنة الزانية ، كانك لقيطة الطرق .
لماذا لم أفقدك كما فقدت كل شيء؟!
لماذا لا يملك المرء ممحاة في مكان ما من الجمجمة تمحو كل الأشياء المحزنة والسيئة ؟!
أحاول الهروب من الماضي غير البعيد ، أجده يقف أمامي كغول خرافي يخرج لي لسانه ساخرا ، بكل جرأة . لن أتخلص منه. انه يلبسني كجلدي تماما، انه أخطبوط شيطاني يلتف حول عنقي ، يخنقني .
هذه المرة لن أهرب من ذاكرتي .. سأحكي ؛ وأحكي لأرتاح .
قبل اليوم .. كنت كسرت ألف قلم و قلم .. بكيت ألف مرة.
اليوم لملمت ما تبقى من شجاعتي ؛ و قررت أن أحكي كل شيء من دون خوف أو حشمة ... أو عيب...سأحكي بكل جرأة...سموني ما شئتم زنديقة...مجنونة...فما عدت أهتم...لقد طفح الكيل.
... بعد المدرسة كنت ألعب مع أبناء حيي نلعب لعبة العسكر واللصوص والبلي و عندما أتعب أجلس مع صديقاتي نلعب بعرائسنا نغير ملابسها , نضمها لصدورنا كما تفعل أمهاتنا معنا .
كنت أبحث عن مخبأ حتى لا يكتشفه الأصدقاء أين أختبئ؟ وراء سيارة؟ لا المكان مكشوف ويسهل القبض علي...أختبئ في حديقة المسيو جورج جارنا؟ لا...ذلك اليوم أمسك بطارق وهدده بأن يضعه في جراج الفيلا مع كلابه الخمسة. من يومها لم نعد نقترب من بيته . أين سأختبئ ؟.. اعترض طريقي رجل أسود، طويل جدا و نحيف . يا الهي كم هو طويل و بشع! شعره أكرث و كثيف يصلح عشا للحمام، وشفتاه كقطعة مقانق ويرتدي قميصا برتقاليا أزراره العليا مفتوحة تكشف عن صدر نحيف كالمشواة، و يلبس بنطلونا من الجينز ضيق من الاعلى ، واسع جدا من الأسفل..و لديه دراجة. قال لي :
ـ هيا معي ، والدك يريدك .
ولان والدتي تحذرني من الحديث مع الغرباء فقد ابتعدت عنه . أين أختبئ؟ سأذهب الى المزبلة.. لكن لا انها نتنة مملوءة فضلات آدمية وازبالا . علي قال لي : أن العفاريت تسكنها .. تستيقظ ليلا و تنام نهارا وقد أزعج العفاريت أثناء نومها فتشلني أو تتلبسني . لا .. أين أختبئ ؟ الرجل الأسود يمسك يدي بقوة . ألا تريدين الذهاب لرؤية والدك ؟ اني أعمل في المحل المجاور لمحله ، أرسلني لكي آتي بك ..
ـ ما اسم أبي؟
ـ الحاج محمد..
ـ أجل أبي الحاج محمد
واردف : أنتن خمس بنات وولد . هل أنا مخطئ؟
ـ فعلا ..فعلا
جاءت منى قالت لي : اهربي سيقبضون عليك .
أركبني دراجته و طار بي . شيء بداخلي كان يقول لي :
اقفزي من الدراجة . أهربي . لكن لم أفعل. ومن حارة لأخرى و من زقاق لآخر انتهى بنا المطاف في عمارة نائية و فوق سطح احدى العمارات أمسكني بعنف و بطحني أرضا. رفع فستاني, حاولت الصراخ . كانت يده تقفل فمي بقوة ..
أحسست بالاختناق.. جسمه ثقيل ورائحة عرقه كريهة. وهذا اللهاث قرب أذني .حاولت المقاومة وكلما قاومت و حاولت التخلص منه ازداد شراسة . وبعدها انتهى . مادة لزجة كريهة بين فخذي ، ألم.شعري أشعت، رجلايا كأنهما مصنوعتان من القطن ، لا أستطيع الوقوف .هو ممدد بجانبي يلهث كحيوان ، كخنزير، كشيطان ، وذلك الشيء الطويل جدا الضخم يتدلى بين رجليه ... و ... صرخت .استطعت أن أصرخ بقوة . جفل الحيوان الراقد بجانبي . رفع سرواله بسرعة و هرب . صعدت امرأة أوربية سمينة جدا . كانت ترطن بلغة لا أفهمها . لم أعد أفهم شيئا . حملتني , أخذتني الى بيتها بالطابق السفلي . أدخلتني الى الحمام نزعت ملابسي واخذت في غسل جسمي بماء دافئ وصابون . كنت أتلوى من الالم ، أرتعش ، أبكي . وكانت تحاول اسكاتي . غسلت عضوي جيدا .
لم تكن تكف عن السب والشتم بلغة لا أفهمها. ألبستني ملابسي ، أعطتني كأس حليب دافئ وبسكويت . ضمتني اليها .هدأت شيئا فشيئا. بعدها لم أعرف كيف و صلت الىالبيت . عندما أخبرت والدتي بالأمر، ضربت فخذيها بكفيها النحيلتين :
ـ ياويلي .. يافضيحتي
تندب خديها ، تلبس جلبابها ، تنسى أن تضع النقاب على وجهها ، تمسكني بعنف تجرني ، رجلايا كالقطن ، ألم بين فخذي ، أمي لا أستطيع ، تجرني ، كانت تكلم نفسها بصوت مرتفع :
ـ يا ويلي ، اللي عنده بنت عنده أفعى لازم تقتلها . ياريت كل أولادي ذكور .. البنات مصيبة ، يا ربي لا تورينا ما يخيفنا . تمسح دموعها . ندخل احدى الشقق في عمارة مظلمة . تأخذني الى جارتنا و هي امرأة تقوم بكل شيء . فهي طباخة في الأعراس و قابلة ـ مولدة ـ و تغسل الموتى . نزعت المرأة ملابسي واخذت تبحث عن ذلك الشيء الموجود بين الفخذين . بالتأكيد كان شيئا مهما ذلك الذي تبحث عنه . بدليل الاهتمام الذي بدا على وجهها المتغضن ، و بدليل ذلك الخوف والتوسل الذي كنت أراه في عيني والدتي التي كانت تضع يدها فوق قلبها مستندة الى الحائط . كانت والدتي تبدو و كأنها كبرت عشر سنين دفعة واحدة
فجأة أصبح حجمها أكثر ضآلة وانكماشا. كنت أشعر بالخجل والمهانة لماذا تفعلان هذا ؟ كنت أحاول أن أخفي ذلك الشيء بأصابع مرتعشة ، فتزجرني تلك المرأة . كانت تبدو كتلك الغولة التي تأكل الأطفال في الحواديث التي تحكيها أمي لنا . كانت ضخمة جدا و فمها خال من الأسنان الا من ناب في الفك السفلي . ابتسمت ابتسامة لزجة بلا معنى وقالت لوالدتي :
ـ ابنتك طبق سليم كما أنجبتها .
تنفرج أسارير والدتي ، تمنحها نقودا . نعود الى البيت تسألها أختي خديجة :
هه ! ماذا قالت المرأة ؟
تتنفس والدتي الصعداء :
ـ الحمد لله مازالت بنت .
تنزع جلبابها ، تذهب الى المطبخ ، تعود وهي تحمل سيخا حديديا احمر رأسه بفعل النار . أجفل رعبا ..
أهرب الى الغرفة الأخرى تنادي أمي على الخديجة :
ـ امسكيها بنت الحرام ..
تقول أمينة بتوسل :
ـ سامحيها الله يخليك .
ـ ابعدي عن طريقي .
ـ يا أمي انها طفلة .. عمرها أربع سنوات لا تعرف شيئا .
ـ ما تعرف والو..هي كتعرف الشيطان فين مخبي ولده .
تمسكني خديجة و تكوي والدتي فخذي الأيسر . أرتعش .. لم أعد أستطيع حتى الصراخ . أنزوي في ركن الغرفة وابكي في صمت وامسح دموعي عندما يأتي والدي حتى لا يعرف بالأمر . تعودت أن أنام مع والدي ووالدتي : غرفتهما كانت كبيرة جدا . بها سريران كبيران و دولاب ضخم جدا وكرسي هزاز .