- في وجه الشيطان نعم , لكن في وجه أبي لا.
- هل والدك غول خرافي ؟ هذا الخوف بداخلك انت فقط , جربي أن تتحديه , أن تقفي في وجهه و تثوري . ماذا سيحدث في أسوأ الأحوال ؟ سيطردك ؟ فليفعل بيتي مفتوح لك . و يوما ما سيفتخر بك . الفرصة تطرق بابنا مرة واحدة وانا أمنحك اياها . تعالي معي , ساعديني على تأسيس الجمعية , حققي حلمك بأن تصبحي صحفية , تحرري من هذه الأغلال والأصفاد التي تكبلك . ستجدينني دائما رهن اشارتك .
حانت مني التفاتة , رأيت زهرة منزوية في ركن الغرفة تلعب بدميتها , تذكرت طفولتي : الرجل الأسود , بقال الحي, قدور القذر, الحرق في فخدي , المرحاض المظلم , دعاء ابنة إلهام , لواستطيع أن آخذها بعيدا و تكون ابنتي ! نظرت ثانية لزهرة , آه ! كيف لك أن تنسي أيتها الطفلة ؟ أستطيع أن أحس بكل ما تعانين .
تذكرت جملة أبي: يريد أن يأتي بأبنائه الى المغرب لكي يربيهم على مبادئ الاسلام . كان يريد أن يهرب بجريمته الى هنا. كان يعلم أن أمره سينكشف يوما ما . أي مبررات سيقدمها علماء النفس لشخص مثل هذا ؟
نظرت لجوزيان وقلت لها :
- لست جبانة سأصرخ و سأكسر هذا الصمت و سأتقيأ كل ما ظل مختزنا في جوفي طوال هذه السنين , سترين و ستسمعين , أعدك .
ذهبت الى البيت , لم أخبر احدا بشيء , اتصلت بي إلهام كانت فرحة قالت لي :
- ذهبت الى الجامعة لأرى نتيجة امتحانك, لقد نجحت مبروك .
لم أكن فرحة و لم أكن حزينة:
- أشكرك قلتها بكل اقتضاب
- ماذا بك ؟
- لاشيء متعبة .
- لقد اتصل بي نجيب يريد أن يراك غدا على الساعة الثالثة بعد الزوال .
- حسنا انها فرصة لكي أقطع علاقتي به.
- هل أنت جادة ؟ لا تفعلي أرجوك
- بل سأفعل . سأختلق أي عذر لأنهي علاقتي به .
وضعت سماعة الهاتف , واخذت أفكر في كلام جوزيان.
صمت ثقيل يلف المكان , كان ينقر المائدة بأصابع يده نقرات رتيبة تزيد من احساسي بالملل . كنت أرتشف قهوتي رشفات سريعة أريد أن أنهيها بالسرعة نفسها التي أود أن أنهي بها حكايتي مع نجيب . سألني بصوته الأجش :
- ما هو هذا الشيء المهم الذي تفكرين به و يجعلك منشغلة عني ؟
- علاقتنا اليست شيئا مهما يستوجب النقاش والتفكير؟
- ما الذي جد في علاقتنا يستوجب النقاش ؟
ابتسمت في مرارة :
- المشكلة أنه لم يجد أي شيء منذ التقينا. لا تقاطعني أرجوك . أتمنى لمرة واحدة أن أتكلم واقول ما عندي . عندما عرفتك تمنيت لواعيش معك ما لم أعشه من قبل : نخرج , نضحك , نمرحو نذهب سويا الى البحر, الى اماكن لم أذهب اليها من قبل . أن أحدثك كأنني أتكلم مع نفسي بصوت مرتفع , أن لا تكون حواجز بيننا . كنت أتمنى عندما نلتقي نرمي هموم البيت والدراسة والعمل وراء ظهورنا و لو لنصف ساعة , نضحك من قلبينا . لكن كنت أهرب من المشاكل لأجدك تحدثني عنها ... عمل , عمل نفس الكلام لا يتغير أبدا . هربت من الملل فجعلت حياتي أكثر مللا وضجرا . كنت اتمنى عندما أذهب للقياك أذهب بفرح نقي تسبقني أحلامي الوردية و يدق قلبي شوقا لكن كنت أذهب اليك و كأنه واجب اداري ثقيل على نفسي .
جذب نفسا عميقا من سيجارته ثم قال بثباته المعهود:
- و ماذا أيضا ؟
صرخت فيه :
- أتعرف ؟ في البداية كنت معجبة بثباتك ووقارك . الآن بتّ أكره هذه الرزانة . لايمكنني أن أعيش رزينة أربعا وعشرين ساعة في اليوم سبعة أيام في الأسبوع . أريدك أن تخلع ربطة عنقك هذه و تلبس لباسا رياضيا , نتمشى على البحر , ناكل جلاص , لم تمتدح مرة واحدة تسريحة شعري , لم تبد أبدا اعجابك بفستاني أ و عطري . قد تكون هذه الأشياء تافهة بالنسبة لك لكنها مهمة بالنسبة لي .
أطفأ سيجارته بعصبية :
- هل أترك عملي و مشاكلي لأجري وراءك على شاطئ البحر؟
كنت على وشك الانفجار:
- عمل ..عمل ..عمل فليذهب عملك الى الجحيم.
أشعل سيجارة أخرى و عاد يقول بالعصبية نفسها:
- فليذهب عملي الى الجحيم , طبعا لأنك لن تخسري شيئا , لم تتعبي كما تعبت لم تذوقي المر كما ذقته. ما وصلت اليه الآن بنيته بتعب السنين و لست على استعداد أن أضيعه من أجل امرأة ...
- تافهة ؟ أليس كذلك ؟
- اسمعي لماذا لا تذهبين معي الى البيت ؟ لن تندمي أبدا.
- لدي حل أفضل . لماذا لا نفترق ؟
- ماذا تقصدين؟ اسمعي لا تفسدي كل شيء . انك تعجبينني وانا لا أحسن فن الغزل و كل هذا الكلام الجميل والمنمق . اصبري قليلا معي من يدري ؟ قد نتزوج .
ضحكت باستهزاء :
- هل تظنني مراهقة غريرة ؟ ما ان تعدني بالزواج أرتمي في أحضانك ؟ أقول لك شيئا ؟ أحلامي أبدا لا يدخل في ضمنها الزواج . أريد أن تكون لي طفلة نعم لكن لا أريد زوجا , تبدوالفكرة غريبة وغير مقبولة لكن هذا كان دائما حلمي .
بدا ساهما ثم قال :
- لم أسمع عن امرأة ترفض الزواج .
- و ها أنت قد سمعت عنها.
- هذا ضد الطبيعة الا اذا كنت ...
سكت ثم ابتسم في خبث . قلت ببرود وانا أنقر المائدة :
- الا اذا كنت ماذا ؟ سحاقية مثلا ؟ لو كنت كذلك لما همني الأمر و لقلتها على الملأ و لتذهب أنت والجميع الى جهنم . كل ما في الأمر أن لدي أسبابي الخاصة تجعلني أكره الرجال . سمني معقدة ان شئت .
- اذا لماذا دخلت في علاقة معي ؟
- لا أدري تجربة كباقي التجارب.
- تقصدين تسلية كباقي التسليات . كنت تتسلين بي ؟
بدا منفعلا ثم أكمل :
- أنت فعلا معقدة واقترح عليك زيارة طبيب نفساني .
- أشكرك على النصيحة . ما رأيك لو تعطيني عنوان الطبيب النفساني الذي يعالجك ؟
- لو لم نكن في الشارع لقتلتك .
- أنت لن تستطيع قتلي . يمكنك أن تقتل الأطفال أوالعجائز هناك في احدى القرى النائية في بلدك الجزائر . لكن هنا لا . جرب واقسم لك سترى بعد ذلك أياما أسود من شعر رأسك .
ابتلع غضبه , أصلح ربطة عنقه ثم وقف . ناديته :
- نجيب , لماذا لا نفترق بطريقة حضارية ؟ أنا لا أريدك ليس لأنك شخص سيء . بالعكس أنت طيب جدا . لكن هناك أشياء تمنعني من اقامة علاقة جنسية بالتحديد مع أي رجل . لا تسألني عن هذه الأسبا ب أرجوك . لماذا لا تمد يدك لمصافحتي؟
- أنت فعلا غريبة.
صافحني تعمد أن تظل يدي في يده . سحبتها في رفق وودعته .
جهزت جواز سفري خلسة . لم يعلم أحد بالأمر حتى إلهام لم أقل لها شيئا . ضممت الجواز لصدري . بعدها أرسلت لي جوزيان كل الأوراق اللا زمة للحاق بها . بعت سلسلتين ذهبيتين وحجزت تذكرة سفر الى فرنسا . حتى حقيبتي جهزتها . لكن كيف سأقنع أبي بالسفر ؟ فكرت بالاتصال بشقيقاتي لكي يقنعن أبي بالفكرة .
دخلت خديجة بطنها ممتدة أمامها كقنبلة موقوتة ستنفجر في أية لحظة . تبعتها كوثر ثم أمينة . جاءت زوجة أبي , نظرت اليها نظرة ذات مغزى فصعدت الىالطابق الثاني و تركتنا وحدنا . لم نجتمع منذ زمن طويل على صينية شاي . و نحكي همومنا واحلامنا . كنت أحس بالغربة معهن . آلاف من المسافات الضوئية تفصل بيننا . في بعض الاحيان لا يكون المرء في حاجة للسفر بعيدا لكي يحس بالغربة , يمكننا أن نحس بها و نحن بين أهلنا و في بلدنا . كيف أبدأ حديثي معهن ؟
- سأدخل في الموضوع مباشرة دون مقدمات أو مؤخرات.
قالت خديجة :
- أعرف لماذا جمعتنا اليوم . الحكاية فيها عريس اليس كذلك ؟
شعرت بالغيظ . دائما تحاول الظهور بمظهر العالمة العارفة بكل شيء .
- الحكاية أبعد ما تكون عن الزواج .
- اذن ما هو هذا الأمر المهم الذي استدعيتنا لأجله ؟
- لو تصمتين فقط و تسمعين ؟
وضعت يدها على فمها بتأفف .
- هكذا أفضل .
صمتّ لحظة استجمعت قواي وقلت :
- سأسافر الى فرنسا .
وقفت أمينة :
- وهل وافق أبي ؟
- لهذا جمعتكن , لكي تقنعنه بضرورة سفري .
نهضت خديجة بعصبية وقالت :
- أنا لست موافقة على سفرك .
- لماذا ؟
- لست موافقة و كفى .
- أنت ترفضين لمجرد الرفض ليس الا . ثم أنا لا أستشيرك فقرار سفري اتخذته منذ زمن وسأسافر، أنا أقول هذا من باب العلم بالشيء فقط .
بهدوء سألت كوثر :
- لماذا قررت السفر؟ ألن تكملي دراسة الحقوق؟
نظرت خديجة بغباء و سألتني :
- هل تدرسين الحقوق ؟
ضحكت بمرارة :
- رائع ! حتى أنك لا تعرفين ماذا أدرس.
أضافت أمينة :
- احصلي على الاجازة وبعدها لها رب مدبر حكيم .
قلت باصرار :
- بل سأسافر والآن .
- اذن سافري . ما شأننا بالأمر؟ قالت خديجة بلا مبالاة.
- شأنك أنك أختي وانا أتحدث معك لكي تساعديني على اقناع أبي .
- الا أبي - أنت تعرفين لسان أبي و عصبيته وانا حامل و لن أتحمل كلامه .
- وانتما ؟
طأطأتا رأسيهما علامة علىالتملص والرفض . أحسست بغصة في حلقي . فتحت باب الغرفة و قلت :
- يمكنكن الانصراف .
وقفت خديجة واضعة يدها على بطنها:
- هل تطرديننا ؟ انه بيت أبي , ندخله و نخرج منه متى أردنا .
- هل من الضروري أن يسمع العالم صراخنا و خصامنا كلما التقينا ؟ ابقي أوانصرفي هذا أمر يخصك .
- هذا البيت بنيته بعرقي و جهدي ب ...
استفزتني , نكأت جراحي :
- بنيته بعرقك و جهدك ؟ حسب علمي لم تكوني موظفة . بل لم تدرسي أبدا . فعن أي جهد و عرق تتكلمين بالضبط ؟
اصفر وجهها . صمتت واخذت تبكي . شلالات من الدموع كعادتها :
- نسيت ؟ منذ ولدت وانا كنت لك أما . أشتري لك الملابس , الادوية , الأطباء .. كم أنفقت عليك أنت بالضبط .
- لا لم أنس ابدا. كما لم أنس كم تركتني في الحديقة وحدي , و كم أخذتني الى تلك الشقة المتعفنة و شقق أخرى كثيرة.تقفلين علي الباب و تنصرفين لمجونك . و لم أنس كذلك ضربك لي واهاناتك المتكررة و سجني داخل المرحاض المظلم المليء صراصيرا .. فئرانا وعفاريت . كيف لي أن انسى كل هذا ؟ أنت لم تكوني أما لي أبدا , كنت جلادي لسنوات وأشفق على هذا الطفل القادم لن تستطيعي أن تكوني أما له.
أخذت أمينة تنظر لكوثر بذهول . صرخت فيهما:
- يكفي تمثيلا . لما هذه الدهشة المرتسمة على وجهيكما؟ كأنكما لا تعرفان شيئا . ألم تكونا تعلمان أن لكما أخت قحبة ؟
صرخت حديجة من خلال دموعها:
- أجل قحبة . كنت أريد المال الكثير , الكثير جدا . كنت أريد أن البس كالناس , آكل كالناس . كنت أريد هذه الدنيا بطولها وعرضها. ووالدك كان شحيحا. لوالأمر يعود اليه للبسنا جميعا ثيابا مرقعة .
- وزوجك كذلك شحيح . بل أكثر شحا من أبي فكيف تتصرفين ؟ هل ما زلت تذهبين لتلك الشقق ؟
- سأقول لك كل شيء لكي ترتاحي . لم أعد أذهب لتلك الشقق لأن الزبائن أصبحوا يأتون الي في شقتي وزوجي يعلم , انه واجهة فقط .أنا أصرف على البيت وأنا من اشترى له محلا تجاريا.