مليكة مستظرف كاتبة أصيبت بمرض القصور الكلوي في الرابعة عشرة من عمرها، وحكم عليها الأطباء بالموت منذ 1986، وماتت سنة 2006. وأصدرت مجموعتها القصصية: ترانت سيس سنة 2004، أي قبل عامين من موتها بعد صراع طويل ومرير مع المرض، وودعت قرّاءها بنصّ قصصي شديد الدلالة: مــوت، معلنة بذلك موتها على الملأ.
ورغم قلّة إنتاجها الذي يشمل رواية ومجموعة قصصية ونصوصا متفرقة أخرى، فهي تنتمي إلى هذه العائلة من الكتّاب الذين أصيبوا بأمراض جعلتهم وكتاباتهم يعيشون بين الحياة والموت: دوستويفسكي وداء الصرع، توماس مان ومرض السّلّ، بودلير ومرض الزهري، فيرجينيا وولف ومرضها النفسي الذي أدى بها إلى الانتحار الذي دونته من قبل في يومياتها وإبداعاتها، وهيرفي جبير الذي كتب أهم أعماله أثناء صراعه مع داء السيدا قبل أن يتوفى سنة 1991 ، وبدر شاكر السياب الذي كتب أروع قصائده بعد إصابته بمرض لم ينفع معه علاج قبل أن يموت سنة 1964، وأمل دنقل الذي ترك ديوانا شعريا تحت عنوان: أوراق الغرفة 80، وهو رقم الغرفة التي كان يعالج فيها من مرض السرطان،ومحمد خير الدين الذي كتب وهو طريح الفراش في صراع مرير مع مرض السرطان:يوميات سرير الموت، قبل أن يهزمه الموت نونبر 1995، وسعد الله ونوس، ويوسف ادريس، ومحمد زفزاف، ومحمد شكري... كتّاب كان المرض ينخر أجسادهم، ومع ذلك استطاعوا في الغالب أن يكتبوا بطريقة تدفع إلى إعادة النظر في علاقة الكتابة بالمرض، بمعنى علاقة الكتابة بلحظات من حياة الكاتب تتراوح بين الحياة والموت، فالمصاب بداء السرطان أو السيدا أو غيرهما من الأمراض الخبيثة القاتلة يصبح موته حتميا ومعلنا على الملأ، ومن الأسئلة الأساس التي تفرض نفسها هنا: كيف يواجه الكاتب المرض والموت بواسطة الكتابة؟ كيف تكون المواجهة بين اللغة والألم، بين الكتابة وقوى الموت؟ كيف نبحث عن معنى الألم في قلب الكتابة؟
ما يميّز هؤلاء الكتّاب أن عمرهم يتوقف في اللحظة التي يصابون فيها بالمرض، فبعد ذلك يكون الموت والحياة متصاحبان، وتتقدم حياة المريض كأنها حداد معلن، فالمريض في هذه الحالة يحمل موته معه، وبعد المرض لم يعد الأمر يتعلق، كما قالت مليكة مستظرف، إلا بأشواط إضافية في انتظار الورقة الحمراء.
هذا الفضاء الذي يقع بين الحياة والموت، ويشهد صراعا طويلا ومريرا مع المرض، هو موضوع بعض قصص الكاتبة الذي سمح بكتابة لها خصائص تميّزها وتتميّز بها، ذلك لأن للمرض شعريته أيضا.
في نصّها القصصي: مأدبة الدم كتبت مستظرف عن مرض القصور الكلوي بضمير المتكلم الذي لا يحيل على الكاتبة، بل على رجل مصاب بالمرض نفسه.
هكذا يركز الراوي على لحظة اكتشاف المرض ولحظة الانتقال إلى هذا الفضاء الجديد: ما بين الحياة والموت. فبعد زواجه بأسبوع واحد فقط، أخذ يحسّ بألم أسفل الظهر: " ألم شديد قويّ، يقول الراوي، يعتصرني... ينهشني ... يشلني ... يمتد إلى بطني ومتانتي. أزحف إلى المرحاض، عملية التبول أصبحت بالنسبة لي عملا شاقا، تنزل قطرات بنية تؤلمني كفلفل حار"(ص49).
يزداد الألم، ويتحول المريض إلى فأر تجارب الأهل والجيران بوصفاتهم الطبية الشعبية الغريبة، ويتحدث الفقيه عن التوكال، وتتهم الأم الزوجة، فتقوم معركة بين الأخت والزوجة، ثم ينتقل المريض إلى المستشفى، ويجده أشدّ نتانة من المرحاض، ليكتشف أنه مصاب بمرض جديد وغريب: الفشل الكلوي المزمن، ويبدأ في التعرّف على حقيقته الجديدة ومصيره المأساوي من مريض آخر مصاب بالمرض نفسه:
« أنت لا تملك حقّ الاختيار، يمكنك فقط أن تختار بين أن تموت فورا ولمرة واحدة، أو تموت بالتقسيط على مدى شهور وسنوات. الموت سيتسلل عبر مسامك، سينخر عظامك وصدرك وقلبك، وسيأكل من نفس صحنك، ويتسرب إليك عبر الهواء الذي تتنفسه. وبعد ذلك ستتعود على وجوده، ستصاحبه وتستأنس به."(ص 51).
وبهذا يكون القارئ أمام نصّ قصصي يقول المرض: يصفه ويراقب أعراضه ويكشف النقاب عن مشاعر النفس وانفعالاتها، هذه النفس التي لم تختر الانتقال من العرس والبهجة والحياة إلى المرض والألم ومواجهة الموت.
يجعلنا النص نتعرّف على الكائن المريض كما هو، ومن خلال المرض، يتمّ فتح نوافذ على الواقع الجديد: ما بين الحياة والموت. إنها كتابة تقول الألم والاحتضار والطريق إلى الموت، أي أنها تقول تجربة وجودية قاسية.
ومع ذلك، فهي كتابة تحكمها حيوية مدهشة تسخر وتنتقد وتحتجّ بالكثير من الألم على وسط عائلي غارق في الجهل والخرافة والنفاق والخيانة، وعلى مستشفيات أشبه بالمراحيض والعلاج فيها غير مسموح به للجميع... ومهمة النقد الأدبي أن يستخرج من كتابة المرض قوة الحياة التي تتضمنها، ذلك لأنها كتابة تفتح أمام القارئ لحظات للقلق: تفتح أعينه على هذا الكائن المريض الذي يعيش بيننا عزلة قاسية، وتدفعه إلى مساءلة لا الموت الطبيعي، بل هذا الموت الآخر والمضاعف الذي يمارسه المجتمع تجاه مرضاه.
2 ــ بين الموت الطبيعي والموت الاجتماعي:
ما يميّز شخوص قصص مليكة مستظرف أنها لا تواجه الموت الطبيعي فقط، بل إنها تواجه " الموت الاجتماعي " أيضا، وهو أقسى وأفظع من الأول، وخاصة عندما لا يلقى المريض من المجتمع غير الإهمال والإبعاد. والسؤال الذي يفرض نفسه هو: كيف يواجه الكاتب وكتابته هذا الموت الاجتماعي؟ هل الكتابة انتهاك للصمت والإبعاد والإهمال الذي تفرضه المجتمعات المادية النفعية على المرضى والعجزة باعتبار عدم صلاحيتهم ولا نفع بعد من ورائهم؟
ما يزيد من ألم الراوي المريض في نص: مأدبة الدم هو أنه لا يواجه الموت الطبيعي فقط، بل انه يجد نفسه أمام موت آخر أكثر قساوة وإيلاما، مصدره أو سببه ليس هو المرض، بل المجتمع الذي يعيش فيه المريض.
قبل المرض، كان الراوي هو الآمر الناهي، لا تجرؤ زوجته على رفع صوتها في حضوره. لكن بعدما تمكّن منه المرض، ووهن جسمه، تغيرت موازين القوى:
" تنمردت واستأسدت عليّ، يقول المريض، أصبحت بالكاد أتكلم ... لم أعد أعمل، خانتني صحّتي، أصبحت هي رجل البيت، هي التي تعمل، لذلك تنمردت عليّ... لقد فضحتني عليها اللعنة بنت الحرام ... على الفراش لم أعد أستطيع أن أرضيها، أتعب بسرعة، أتعب قبل أن أبدأ...أخبار مغامراتها كانت تصلني. كاد أهلي أن يأكلوا وجهي... اضطررت لتطليقها حفاظا على ما تبقى أو لم يتبقّ من رجولة وهمية. لكن الفاجرة فضحتني عند كل العائلة، قالت لهم اني لا أختلف عنها في شيء، بل هي أرجل منّي ... بنت الحرام قليلة الأصل."(ص ص 52 ـ 53).
يواجه المصاب بالفشل الكلوي المزمن موتا مضاعفا: موت طبيعي وموت اجتماعي. وإذا كان المرض ينخر يوميا جسد المريض، ويجعله يعيش الموت الطبيعي بالتقسيط، أو قد يدفعه إلى الانتحار، فان الموت الاجتماعي يهاجم المكانة العائلية والاجتماعية، ويفقد المريض هويته الإنسانية، ويهزم نفسيته وروحه، ويقتل كل أمل في العلاج، ويدمّر كل علاقة بالحياة، وقد يؤدي إلى الجنون.
ينطلق هذا الموت الاجتماعي من الوسط العائلي(الزوجة)، ويمتد إلى باقي مؤسسات المجتمع، وخاصة منها المسؤولة عن علاج المريض. فأول مشكل يواجهه المصاب بالفشل الكلوي المزمن هو الحصول على مجانية العلاج، والمستشفى المفروض فيه أن يكون مؤسسة للعلاج، يتحول إلى أداة اجتماعية لممارسة الموت الآخر. و هذا ما يصفه الراوي المريض في مأدبة الدم فيقول:
" حتى في المستشفى الحكومي حصة غسيل الكلي مكلفة جدّا...ستطلب منك السكرتيرة ... شهادة تثبت فقرك وأخرى تثبت مرضك وصورا شمسية لك. " المقدم" لن يعطيك شهادة الفقر إلا إذا فهمت رأسك وأدخلت يدك في جيبك ... بعد أن تضع الملف ستعطيك السكرتيرة رقما يجب أن تحفظه عن ظهر قلب، لأنه بعد ذلك ستصبح مجرد رقم فقط. سيكون رقمك مائة وقد يكون ألفا. وستنتظر سنة أو سنتين أو ثلاثة. صديقي انتظر ثلاث سنوات، وحينما حان دوره لكي يحصل على مجانية العلاج كان قد أسلم روحه لبارئها..." (ص ص 53 ـ 54).
وإذا حاول المريض الاحتجاج والمطالبة بحقّه في العلاج، فانه يتّهم بالجنون:
" حاولت أن أصرخ، يقول الراوي، صرخت: " من أين لي بالمال حتى أدفع لكم؟"، انتبهت إلى نفسي، كل الناس ينظرون اليّ. سمعت أحدهم يقول: " لقد جنّ". هل جننت فعلا؟"(ص55).
والأكثر إيلاما أن على المريض في مجتمع الزبونية والوساطة والرشوة أن يتعلّم، كما جاء على لسان إحدى الشخصيات القصصية في مأدبة الدم، كيف يقبّل الأيدي والأرجل، ويتوسل ويركع ويزحف وينحني وينثني لكي يستجدي ثمن العلاج(ص 54). وهذا المصير المأساوي هو ما وصفته الكاتبة المصابة بالمرض نفسه في حوار معها فقالت:
"تعلّمت أن الإنسان غير المسنود رخيص. أصبحت كرة تتقادفها الأرجل المتعفّنة. طرقت كل الأبواب المتاحة وغير المتاحة ... احتجاجات ... اعتصامات ... استرحامات ... جنون جنون جنون !!!" (حوار منى وفيق مع الكاتبة في موقع محمد أسليم).
ومع ذلك، فان المعنى الذي تمنحه الكاتبة للموت الاجتماعي في نصوصها القصصية لا يهمّ المريض فقط، ولا ينحصر في موقف المجتمع من مرضاه، بل إن لهذا الموت الآخر معنى أوسع وأخطر هو ما حاولت مليكة مستظرف تشخيصه في آخر نص ودّعت به الحياة، وهو نصّ بعنوان شديد الدلالة: موت( منشور بموقع دروب).
يتحدث هذا النص عن العائلة التي تشاهد الموت( جرائم الحرب في العراق وفلسطين ولبنان) يوميا على جهاز التلفاز من دون أن يثير غضبها أو حزنها. فقد أصبح الموت شيئا عاديا، مملا ومكرورا، ودخل إيقاع الحياة اليومية، والعائلة التي تعتقد أنها تعيش الحياة، لا تعيش إلا الموت في الواقع.
يصف النص هذا الواقع المفارق الذي تعيشه العائلة كما المذيعة، هذا المابين الحياة والموت، هذا الموت الخفيّ الذي يكتسح واقع الإنسان الاجتماعي والنفسي: موت حقيقي تمارسه القوى الجبارة في بلدان عربية شقيقة، وموت رمزي اجتماعي كاسح ينخر النفوس والأرواح:
يقدّم التلفاز جثتا متعفنة ورؤوسا مفصولة، أي أنه يقدّم الموت للمشاهدة، ولا ردّ فعل، ولا إحساس، ولا موقف، بل إن الزوجة تمارس الموت الرمزي بتلذذ عندما تغرز شوكتها وسكينها في قطعة اللحم، وتلتهمها بتلذذ، والزوج لا يبالي بما يقع على التلفاز، بل هو الآخر يشكر زوجته على طعامها اللذيذ، ويلتهم اللحم بتلذذ أيضا، والمذيعة تتصنع حزنا لا يناسب أناقتها.
وإجمالا، فان نصوص مليكة مستظرف تقول مصير الإنسان بعد إصابته بمرض عضال، فالمريض يجد نفسه وجها لوجه مع الموت الطبيعي الذي يهاجم الجسد، ويجعله يعيش الألم بشكل يوميّ فظيع، لكن الأفظع من ذلك أن المريض يجد نفسه أمام عالم اجتماعي مخيف ومرعب وغير منطقي، يفقده هيبته ومكانته في الوجود، ويجعله يحسّ بعزلة قاسية وغربة أكثر إيلاما.
ومن خلال هذه النصوص تتأسس كتابة تتجاوز مسألة الأنا والآخر، البيوغرافي والأوتوبيوغرافي، الذاتي والموضوعي، الكاتب وشخصياته المتخيّلة، لتقول هذا الفضاء الجديد الذي يقع بين الحياة والموت، وهو فضاء يشمل الأنا كما الآخرين. وتتقدّم هذه الكتابة من خلال أشكال سردية بسيطة، تبدو كأنها لا تقوم إلا بتشخيص الواقع، لكنها تأتي أكثر غرائبية ومليئة بالتناقضات والمفارقات واللامعقول، كما في المثال التالي( من آخر نصّ للكاتبة: موت) الذي يصور التناقض الصارخ القائم بين واقع الموت الذي يقوله صوت التلفاز وصورته والواقع اليومي الذي تقوله أصوات العائلة وحركاتها ومواقفها، وهذا الواقع العائلي الاجتماعي وان بدا واقعا حيّا فانه يخفي موتا مرعبا:
إن هدف الكتابة عند مليكة مستظرف هو أن تقول هذه البنى اللامنطقية المشروخة لوضع إنساني يخلق الإحساس بالقلق نحو الوجود: شخصيات تخفي التمزق والانقسام، أحداث لامعقولة، فضاءات اجتماعية ونفسية لا تعرف التناسق والانسجام ...والكتابة تقول ذلك كلّه بسخرية سوداء تحطّم جدران الواقع الاجتماعي، وتفجّر منطقيته الزائفة ومعقوليته المصطنعة، وتكشف النقاب عن ذلك الموت المرعب الذي يكتسح فضاءات الحياة[/size].